جوان فرشخ بجالي
أقفلت جامعة كامبريدج البريطانية مركز «دراسات تهريب الآثار» قبل يومين، وتنوي شرطة السكوتلانديارد إقفال مركز «مكافحة تجارة الآثار والتحف الفنية» في العام المقبل. يأتي هذان القراران ليثيرا مخاوف العلماء من سطوة تجار الآثار في بريطانيا التي تعدّ ثاني أكبر سوق للآثار في العالم


تماثيل إغريقية وأخرى رومانية، أوانٍ فخارية فينيقية، زجاجيات فارسية، أقراص طينية مغطاة بكتابات مسمارية، مخطوطات إسلامية... تلك القطع الأثرية التي عادة ما تفخر بها كبرى المتاحف العالمية، هي جزء بسيط مما يعرض يومياً في سوق لندن للتحف الفنية، حيث تتنافس صالات العرض فيما بينها لامتلاك وبيع القطع الفريدة. قطع تصلها من كل أقطار الأرض: من الصين والهند وباكستان إلى العراق ولبنان وسوريا فاليونان...
تاريخ الأمم معروض في مزادات لندن، ومن له القدرة على الشراء تُشرّع له الأبواب، وتصل أسعار التحف الأثرية إلى أرقام خيالية. فقد بيعت مخطوطة إسلامية فاطمية أخيراً بمليون جنيه إسترليني (ما يقارب مليوني دولار)! وتناهز أسعار الأواني الفخارية المعروضة في صالات العرض 5000$!
حاول بعض من أساتذة الجامعات، خلال العقد الماضي، في بريطانيا، محاربة عملية بيع تاريخ الشعوب هذه، عبر إنشاء مركز للأبحاث في جامعة كامبريدج، معهد ماك دونالد، أطلق عليه اسم «مركز دراسات تهريب الآثار» ـــــ
Illicit Antiquities Research Center. ويقول نيل برودي، مدير هذا المركز الفريد من نوعه في العالم «إنه يُعنى بدراسة السوق ومعرفة الطرق المتبعة لتهريب وبيع الآثار وخطورة هذه التجارة على شعوب العالم. وهو يحاول توعية الرأي العام على خطورة الاتجار بحضارات الشعوب التي تعيش حالياً أوضاعاً اقتصادية صعبة أو حروباً».
كان للمركز منشورات علمية توزع مرتين سنوياً وعنوانها «ثقافة من دون سياقها التاريخي» (Culture without context) تلاحق قضايا السرقات والبيع في كل أنحاء العالم. كما كان ينظم معارض لصور فوتوغرافية تظهر النهب، ويقيم محاضرات وندوات لتنبيه الرأي العام. وكان لعمل هذا المركز أثر لدى البريطانيين، مثيراً بينهم نقاشات عديدة بشأن شرعية بيع الآثار.
ولكن، ومع الأسف الشديد، فقد رأت إدارة جامعة كامبريدج أن ميزانيتها لم تعد تسمح لها بإبقاء المركز (الذي يضم أستاذين فقط)، فأقفلت أبوابه قبل يومين، وغادر مديره السابق، نيل برودي، إلى الولايات المتحدة حيث سيبدأ بمزاولة التدريس.
إقفال هذا المركز الفريد من نوعه في بريطانيا والعالم، سيكون له تأثير سيّىء على علماء الآثار الذين يحاربون الاتجار بالقطع الأثرية، لأنه يعني أن حربهم مع التجار وهواة جمع القطع ـــــ وهم من أصحاب الثروات في العالم ـــــ بدأت تعطي نتائج سلبيةويشرح مدير قسم الآثار في جامعة «نيوكاستل» البريطانية البروفسور بيتر ستون لـ«الأخبار» أن «إقفال مركز الدراسات وتهريب الآثار في جامعة عريقة وغنية مثل جامعة كامبريدج يثير تساؤلات ونقاشاً حاداً داخل بريطانيا، التي تعدّ ثاني أكبر سوق للآثار في العالم. فتوقيت إقفال المركز غريب جداً، إذ يأتي في وقت تشهد فيه دول مثل العراق وأفغانستان تدميراً شبه كامل لحضارتيهما من جهة، وارتفاعاً للأصوات المنددة بهذا النهب الواسع للآثار في الأوساط العلمية والأكاديمية البريطانية من جهة ثانية. ومما لاشك فيه أن غنى جامعة ضخمة مثل كامبريدج، لا يعني أبداً توزيعاً متوازياً لأموال موازنتها على كل أقسامها. والمؤسف أن إقفال المركز لم يحرّك ساكناً على مختلف المستويات، وأتى حتى من دون همس اعتراض». وهنا تجدر الإشارة إلى السكوت المطبق الذي يخيّم على وسائل الإعلام البريطانية التي لم تُعِر إقفال المركز أي اهتمام.
هذا ليس كلّ شيء، ويبدو أن الآتي أسوأ. إذ سيُقفل خلال السنة المقبلة مركز «مكافحة تجارة الآثار والتحف الفنية» في شرطة السكوتلانديارد، إلا إذا استطاع المركز أن يجد لنفسه مموّلاً خارج إطار الحكومة البريطانية! وقد أتى قرار السلطات البريطانية إقفال المركز، بعد أن أعيد ترتيب أولويات عمل كل فروع الشرطة البريطانية الدولية، وتبيّن «أن مكافحة العنف عند الشباب في جنوب لندن لا يمكن أن تجري بالتوازي مع مكافحة تهريب وبيع الآثار المسروقة». فلا بد إذاً من إقفال المركز الذي كان قد أظهر خلال السنة الماضية فعالية في العمل، بعد أن عثر على آلاف القطع الأثرية الأفغانية والباكستانية المسروقة حديثاً، معروضة للبيع في أسواق لندن، وجرى إعادتها إلى وطنها الأم. وكان فيرنون ريبلي، أحد المسؤولين عن مكافحة تهريب الآثار والعاملين في المركز، قد أكد في محاضرة له في جامعة لندن «أنه حينما يزوّده الإنتربول الدولي واليونسكو باللوائح اللازمة للقطع المفقودة من متحف بغداد، حتى لو أعطيت له صور لأكثر التحف الأثرية من حضارات ما بين النهرين، فهو مستعد لزيارة كلّ صالات العرض في لندن ومطالبتها بإظهار الوثائق التي تثبت أن التحف التي تبيعها قد استخرجت من أرض العراق قبل عقدين...».
وكان ريبلي سيباشر تلك الحملة التي وضعت ضمن خطة العمل الشاملة لمكافحة بيع الآثار العراقية، والتي كانت ستبدأ في 2008. ولكن بالطبع أتى قرار إقفال المركز قبل بدء المداهمات! ويرى البروفسور ستون في إقفال المركزين رسالة واضحة تريد الحكومة البريطانية إرسالها إلى العالم قائلة: «إن الاتجار غير المشروع بالآثار وتهريب القطع لا يزعجان السلطات على هذه الجزيرة...»
يذكر أن المراقبين كانوا ينتظرون باهتمام كبير نتائج المحاكمة في قضية مطالبة الدولة الإيرانية باستعادة تحف إيرانية مسروقة من موقع جيروفت في جنوب إيران بيعت في لندن. وقد رفض القضاء البريطاني الطلب الإيراني، وسمح «لصالة عرض بركات» ـــــ التي يملكها أخ عمدة القدس ـــــ بامتلاك القطع وبيعها. هذه الدعوى، لو ربحتها إيران، لكانت المحاكم البريطانية ترزح اليوم تحت مئات الطلبات لاستعادة القطع المسروقة من جميع دول العالم. ولكن، مع الأسف الشديد، لم ولن يحدث ذلك، إذ يبدو أن القضاء البريطاني يتماشى مع سياسة حكومته.
تبدو قرارات إقفال مركز الدراسات في جامعة كامبريدج وقسم المكافحة في الشرطة البريطانية سياسية بامتياز، وسيكون لوقعها وطأة كبيرة على الدول الغنية بالآثار، مثل لبنان وكل دول المشرق العربي ومغربه. ومما لا شك فيه، أن دائرة تهريب القطع الأثرية ستتسع، وسوق لندن ستبتلع أكثر من أي وقت مضى تاريخ المنطقة.

لاتزال منشورات مركز الأبحاثIllicit Antiquities Research center موجودة على الإنترنت على العنوان التالي:
www.mcdonald.cam.ac.uk/projects/iarc/culturewithoutcontext/contents.htm




أهميةالقطعة

ليست سرقة القطع الأثرية حديثة العهد. فاللعنات الموجهة إلى السارقين والتي حُفرت على مداخل قبور الملوك تُظهر قدمها. ولكن الفرق بين ما كان يحدث في الماضي وبين ما يحدث اليوم هو تطوّر دراسة الآثار في القرنين الماضيين، إلى أن أصبحت علماً قائماً بحد ذاته ينظر إلى القطع الأثرية كشاهد على عصر يحمل في طيّاته تاريخ حضارة متصل بتاريخ البشرية، في حين أن تجارة الآثار لا ترى في القطع إلا جمالها.