عكار ـ خالد سليمان
قضاء خاص، هو القضاء العشائري، يلجأ إليه عدد كبير من أبناء العشائر العربية في وادي خالد، لحل النزاعات فيما بينهم وفقاً للعادات والتقاليد الموروثة. وتُظهر بعض الأبحاث أن نحو 45 في المئة من أبناء العشائر في الوادي، يفضلون اللجوء إلى القضاء العشائري على اللجوء إلى المحاكم المدنية اللبنانية


يمضي حسين ر. عقوبة النفي خارج وادي خالد لمدة عشر سنوات، هي «خلاصة الحكم» الذي أصدرته بحقه عشائر الوادي بسبب «إقدامه» على خطف إحدى الفتيات والزواج بها. أما الغرامة المالية، فقد بلغت نحو 5 آلاف دولار أميركي، دُفعت إلى ذوي الفتاة.
فحسين خرق بفعلته تلك، الأعراف العشائرية في وادي خالد، رغم أن قانون العقوبات اللبناني لا يعاقب على هذا النوع من الأفعال، إذا كانت المخطوفة غير قاصر، وانتهت عملية الخطف بالزواج. هذه الحادثة هي واحدة من المئات التي حكم فيها القضاء العشائري في وادي خالد، الذي يعدّ إحدى الوسائل البديلة والأساسية لحل النزاعات بين سكان الوادي، الذين ينتمون إلى عشيرتين أساسيتين، هما الغنام والعتيق، وبعض الأفخاذ والبطون المنتمية إليهما.
ويرى بعض الباحثين أن القضاء العشائري في وادي خالد تراجع إلى حد كبير، وهو ما أظهرته الدراسة الاجتماعية للباحث عمران عمران، حيث أفادت عيّنة تجريبية أن 9 % من الأفراد المستطلعين يرون أن شيخ العشيرة هو الذي يحل النزاعات، مقابل 72% للدولة، و19 للاثنين معاً.
أما خلال الحرب الأهلية وقبلها، وبحسب الدراسة، فإن نسبة كبيرة (97 %) قالت إن من يحل النزاعات هو شيخ العشيرة.
يعلّق الشيخ سليمان سليمان، أحد مشايخ عشائر العتيق، والناطق باسم العشائر العربية في لبنان، على هذه النتائج بالقول: إن دور شيخ العشيرة آخذ في التراجع يوماً بعد يوم، وذلك بسبب ضعف اللحمة العشائرية (العصبية) والانتماء العشائري، وضعف سلطة شيخ العشيرة وهيبته أمام سلطة الدولة اللبنانية وهيبتها، وخاصةً بعد انتهاء الحرب الأهلية.
ويروي الشيخ سليمان حادثة حصلت في السبعينيات، «عندما خطف أحد أبناء عشيرته، العتيق، فتاةً من الطائفة العلوية، وتزوج بها، فقام شقيق الفتاة بقتل أحد أفراد عشيرة الخاطف. وعندما ألقي ألقبض عليه، بعد مقاومة ضارية، أُلبِس عباءة وكوفية عربيتين، وأُرسِل إلى أهله معزّزاً مكرّماً من دون أن يمسّه أحد بشرّ، لأن القيم والأعراف تقضي بذلك، لكونه طالب حق».
يضيف الشيخ: «في أواخر الخمسينيات حصل خلاف بين عشيرتي ناصر الدين وعبيد في البقاع، ذهب ضحيته عدد من الأشخاص من الطرفين، فلجأت عشيرة عبيد إلى وادي خالد، وسكنت فيه لغاية اليوم، بعد تأمين الحماية لها، وقبل آل ناصر الدين هذه الحماية، وفُضّ الخلاف بينهما».
كذلك جرت خلافات بين عشائر وادي خالد، حُلّت في أغلبها عبر الصلح العشائري من دون تدخّل الدولة.
حكم بشهادة الشهود والقَسَم
ويسمّى القضاء العشائري في وادي خالد «الشرعة» أو «الشريعة» حين يلجأ المتخاصمان إلى محكّم، غالباً ما يكون من الوجهاء، للفصل في النزاع، فيقبل به الطرفان. ويتابع الشيخ سليمان: أما في الخلافات الكبرى، فيصار إلى عقد مجالس كبرى، تضم ممثلين عن مختلف العشائر، وأحياناً يحضر بعض ممثلي عشائر البقاع لمباركة الصلح. ويجري الاستماع إلى وجهات نظر الخصوم، أو من يمثّلونهم ممن يحوزون على «وكالة خاصة»، تتمثل بأن يخلع المدّعي أو المدّعى عليه عباءته ويلبسها لمن ينوب عنه في الكلام والدفاع. وغالباً ما يجري اختيار الفصحاء ومن يملكون حجة الإقناع ورجاحة العقل.
كذلك يجري اختيار المحكّم ممن يجيدون قراءة القرآن ومن المعروفين بفطنتهم وحكمتهم ونزاهتهم، وهي شروط تشبه إلى حد كبير شروط اختيار المحكِّم في التحكيم الحديث.
أما وسائل الإثبات فهي البيِّنة الشخصية (شهادة الشهود) وحلف اليمين. ويحتاج الشاهد في بعض الأحيان إلى التأكد من أهليته، فيزكّيه البعض بالقول: «معروف عنه أنه لا يحلف باطلاً ولا يقول عاطلاً»، ويعاقب شاهد الزور بقدّ ثيابه من الخلف كوصمة عار بين أقرانه، وهذه أمور لم تعد موجودة اليوم.
أما العقوبات، فهي تختلف بحسب الجريمة المرتكبة. ولا يعاقب الفاعل وحده، بل تُسأل عائلته، وأحياناً عشيرته. ففي جريمة القتل القصد، يطلب الثأر من جميع أفراد عائلة المتهم بالقتل بعد ثلاثة أيام من تحذيرها بالرحيل من الوادي. أما في القتل الخطأ، فيصار غالباً إلى دفع الدية وطلب السماح والعفو من عائلة القتيل بملازمة قبره أياماً حتى يحصل العفو. وهي أمور ما زالت سائدة لغاية اليوم.
وتُدفع الدية تضامنياً، وتُجمع من كل أفراد العشيرة. وجرى العرف أن يدفع الجاني الثلث، وأبناء عمومته الثلث، وأبناء عشيرته الثلث الأخير. ويؤكّد الشيخ سليمان أنه في العادة، لا يتقاعس أحد عن هذا الأمر.
يضيف سليمان أن: «الجرائم المخلّة بالشرف والعرض، لا يمكن التهاون فيها، وتكون عقوبتها قاسية، تصل إلى القتل ومطاردة الفاعل وحده، دون باقي أفراد عائلته وعشيرته، الذين يتبرّأون في العادة منه ومن فعلته المشينة لهم».
يذكر أن عدداً من الفتيات والنسوة في وادي خالد قُتلن على أيدي أقرباء لهن، بعد اتهامهن بممارسة الزنى أو لمجرد الشك بهن. وفي هذه الحال، يقول الشيخ إنه «يحق لذوي الفتاة العذراء المطالبة بديّتها ومهرها من عائلة المتهم بارتكاب الزنى».
قضاء العشائر أسرع من الدولة؟
وعلى رغم تراجع القضاء العشائري، فإن أبناء وادي خالد لا يزالون يفضلونه على قضاء الدولة. وبحسب الدراسة السابقة، فإن نسبة 45 % من العيّنة يفضلون أن تُحلّ نزاعاتهم على يد شيخ العشيرة أو أحد الوجهاء، ويرون في اللجوء إلى المحاكم المدنية اللبنانية مجلبة للعار والسخرية في بعض الأحيان، ودليل عجز. كما أن مهنة المحاماة ليست مُحبّبة، ويوصف صاحبها بـ«الكذاب»، وهذا الأمر قد يفسّر ابتعاد أبناء وادي خالد عن هذه المهنة. وبحسب ما أفاد مصدر في مخفر وادي خالد، فإن «نسبة 80 % من الشكاوى يجري التراجع عنها وإسقاط الحقوق الشخصية بعد تدخل كبار السن والعقلاء الذين لهم مكانة واحترام لدى أفراد المجتمع». وأضاف المصدر أن «المخفر يلجأ في بعض الحالات إلى عشيرة المدّعى عليه الفار، لتسليمه إلى القوى الأمنية، مشيراً إلى أن معظم الخلافات التي يجري اللجوء إلى المخفر لحلها هي بشأن الحدود العقارية، لأن الأراضي غير ممسوحة لغاية اليوم».
يشرح الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية، الدكتور غسان الخالد، أسباب تفضيل أبناء وادي خالد القضاء العشائري بالقول إن الحكم العشائري أكثر سرعة في التنفيذ، حيث لا طرق للطعن، كما هي الحال في قضاء الدولة، إضافة إلى قوته الإلزامية من دون أن يجادل أحد بذلك.
ويضيف أن «هناك اعترافاً متبادلاً ما بين العشيرة والدولة، لا بل إن القضاء اللبناني يأخذ بالصلح العشائري في بعض الحالات».