جان عزيز
يصف أحد السياسيين المخضرمين مشهد الصراع المسيحي حول الاستحقاق الرئاسي، بالصورة السوريالية، حتى العبثية المجردة. ويستدل على ذلك باللامنطق، أو المنطق العدمي الذي يسيطر على هذا المشهد، استناداً الى القراءة التالية: من هم المرشحون الرئاسيون المعتبرون طرفيين خلافيين أو صداميين، ومن هم الوفاقيون، وما علاقة الفئتين من هؤلاء المرشحين بمرحلة الوصاية السورية، وبالتالي بخطاب مرحلة السيادة الراهنة وانتفاضة الاستقلال وثورة الأرز وكل مفردات اللغة المستخشبة حديثاً؟
ولتبسيط قراءة هذا العامل، يلاحظ السياسي نفسه ما يلي:
1 ــــ في الجانب المسيحي المعارض، يبرز مرشح رئاسي أساسي، لا بل شبه أوحد، هو ميشال عون. وهو الاسم المعروف منذ نحو 18 عاماً بإعلانه حرب التحرير ضد الوجود السوري في لبنان، ومن ثم خروجه منفياً تحت وطأة اجتياح جحافل دمشق آخر المناطق اللبنانية، والمفارقة أن هذا الاسم نفسه يعتبر لدى قسم كبير من فريق الموالاة، وخصوصاً لدى مسيحيي هذا الفريق، اسماً مخالفاً لمعايير الرئيس الاستقلالي كما يرونه.
2 ـــ أما في الجانب المسيحي الموالي، فيبرز اسمان أساسيان، أمين الجميل وسمير جعجع، والاثنان صاحبا تاريخ معروف في مناهضة الوجود والهيمنة السوريين. وهذا أمر يقر لهما به أخصامهما المسيحيون، على رغم الكمّ المتراكم من الحساسيات في ما بينهم. واللافت هنا أيضاً أن هذين الاسمين مستبعدان من لائحة ترشيحات فريق 14 آذار، الذي اكتسب تسميته كما يفترض، من ذلك اليوم الذي جمع أكثرية لبنانية مطالبة بإنهاء زمن الوصاية السورية على لبنان. واستبعاد الاسمين الخصمين تاريخياً لسوريا، يعدُّ من مسلّمات حلفائهما حتى، بحيث إن ثمة نوعاً من التسليم بين مسيحيي السلطة، بأن فريقهم السيادي المستجد لا يمكن أن يحمل ثقل ترشيح أي من المسيحيين السياديين الأصيلين، ولا قدرة له على تسويق هؤلاء ضمن قيادة ثورة الأزر نفسها، لا بالنسبة إلى خصومها من «جماعة المحور السوري ــــــ الإيراني». واللامنطق المسيحي العدمي نفسه قضى بأن يفهم جميع مسيحيي الموالاة هذه المعادلة الداخلية، ويتفهموها ويقبلوا بها بصمت، على طريقة كتم الفضيحة.
ومنطق «الاستئثار» هذا في مواجهة «معاصي» تحالف الموالاة، حتّم أن يقبل الجميل وجعجع قبل سواهما، بأن يكون مرشحو فريقهما من الأسماء التي يملكون حيالها تاريخاً كاملاً من التحفظات والوشوشات وهمسات المجالس الخاصة ووثائق الزمن الماضي.
3 ـــ وبين مسيحيي المعارضة ومسيحيي الموالاة، تبرز فئة ثالثة من المرشحين المعلنين أو المكتومين، ممن يحوزون الإجماع بوصفهم من الوفاقيين. لكن ذروة السوريالية العبثية في المشهد المسيحي الرئاسي، تكمن في أن أسماء هذه الفئة، كلهم ومن دون أي استثناء، هم من سياسيّي حقبة الوصاية، أو من موظفيها، أو من طبقتها المحدثة في الحياة السياسية المسيحية العامة. وبمعزل عن هواية استحضار الماضي الحاضر أصلاً، وبعيداً من كيدية استذكار مواقف الأمس القريب، يلاحظ أن جميع المطروحين كحلول وسطية، هم من الذين خاصمهم المسيحيون السياديون، وتحديداً عون وجعجع وفريقيهما، طوال عقد ونصف عقد من الزمن السوري.
4 ـــ وتبقى حبة الكرز فوق هذا القالب من السوريالية العبثية، أن بكركي نفسها، التي تؤمن بأنها كانت أبرز من دحر عهد الوصاية، باتت منخرطة في المشهد نفسه، بحيث أصبح من المسلّم به لدى الجميع، أن حركة الصرح البطريركي الرئاسية تهدف أو تساهم، على الأقل، في استبعاد المسيحيين السياديين الأصيلين وفي تزكية أسماء المرحلة التي أقفل الصرح أبوابه في وجهها، وواجهته بمقولة «إطلاع العشب على أدراجه».
وبعد تحديد مكونات هذه اللوحة السوريالية، يتراجع الناظر المراقب خطوات الى الوراء، ليتمكن من مشاهدة الصورة كاملة، فيكتشف الخلاصة التالية، ولو بقدر من التصوير الكاريكاتوري: كأن النظام السوري انتصر على القسم الأكبر من المسيحيين وقسم من اللبنانيين مطلع التسعينيات. ثم منتصف العقد الأول من الألفين، تضافرت ظروف وتقاطعت سياقات، سمحت في محصلتها بكسر دمشق في بيروت، واستعادة السيادة اللبنانية على يد المهزومين أنفسهم قبل 15 عاماً. فجأة وفي هذه اللحظة بالذات وعند البحث عمن يدير حكم السيادة، يقرر الجميع اختيار سوريا من جديد.
الخلاصة العبثية هذه، ليست غريبة عن منطق الثورات ومصائر الثوار، فمقولة «أكل الأولاد» عتيقة جداً في هذا المجال، ورواية «مزرعة الحيوانات» الأورويلية شهيرة جداً في الواقع اللبناني، والمسيحي خصوصاً، حتى إنه نادراً ما خلا فريق في هذا الوسط، من ظاهرة نسخ هذه الرواية وتوزيعها على المحازبين والكادرات، على طريقة الغمز من قناة قانون الصمت المطبق في كل مكان، بديلاً من ثقافة الديموقراطية المحظورة.
غير أن كل هذه العناصر الميسرة لفهم الظاهرة المسيحية العدمية تلك، لا تكفي إطلاقاً لقبولها من قبل أي من المعنيين، حتى إن كثيرين يعتقدون أن المسؤولين عن هذا الواقع المرضي يدركون أن هناك غالبية مسيحية ولبنانية ساحقة ترفضه ولا يمكن أن تقبل به في وجدانها، مهما كانت قدرتها على التعبير والتجسيد.
ولأن الأمر كذلك يُفهم صمت البعض عن إعلان اسم مرشحهم، أو اسم من سيقترعون له، مجيّرين له كل تضحياتهم وتضحيات جماعاتهم وعذابات شعب كامل. فماذا لو أعلن أحد القادة، مثلاً، أنه فعل كل ما فعله في ماضيه السيادي، ليوصل فلاناً الى الرئاسة؟ كارثة يدركها المسيحيون المعنيون تماماً، روحيين وزمنيين، ويراهنون على الوقت والصمت لتمريرها، وقد لا تمر.