strong>عمر حبيب
إذا كان لكلّ مأساة بعض الإيجابيات، فإن الإيجابية الأبرز في الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان كانت التجربة المميزة التي أتاحها النزوح للبنانيين ليتعرّف بعضهم بالبعض الآخر. شمال لبنان استقبل جنوبه وعاش أبناء المنطقتين «كما يجب أن يعيش أبناء الوطن الواحد»، بل ربما أفضل. يقول عدد ممن عاش هذه التجربة إنها لم تكن لتتم بهذا النجاح لولا وثيقة التفاهم التي وقّعها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»

«نازحون في قرية زان...»، جملة سمعها عبر الهاتف أحد شباب «التيار الوطني الحرّ» في البترون مساء الأحد 17 تموز 2006، كانت فاتحةً لتجربة إنسانية وطنية بدّلت الكثير في الوضع السياسي اللبناني. ذلك الأحد كان اليوم الأوّل لنزوح عدد كبير من اللبنانيين الشيعة إلى المناطق ذات الأغلبية المارونية في قضاء البترون.
نازحون في قرية زان إذاً، الأمر ليس مزحة. بادر بعض الشباب إلى الاتصال بعدد من الجمعيات المدنية والدينية في المدينة لتساعد ثلاثين نازحاً على تمرير الليل، في انتظار فرج الصباح. بحثوا عن فراش ووسادة وغطاء ولقمة تسدّ الجوع من دون نتيجة، فتدبّروا أمرهم من أثاث منازلهم ومطابخ أمهاتهم.
في اليوم التالي، انتشر الخبر، وكان ترقّب، وشعور هو مزيج من الرغبة في المساعدة والفضول والقلق. وعند قليلين، رفض واستهجان وكلام على اجتياح للمنطقة «فتّشوهم جيداً، قد يكونون يحملون الصواريخ..».
أيام أخرى، ويبدأ مكتب «التيار الوطني الحرّ» في المنطقة بتلقي الاتصالات: وفد قادم من القرية الفلانية وصل إلى جسر المدفون، أو هو متوقف في مكان ما في المدينة.
يستقلّ شبان وشابات سياراتهم، يتوجّهون إلى المكان المفترض، يجدون أو لا يجدون. ومنذ البداية، كان في الجوّ خوف من إمكانية تعرّض الوافدين إلى إزعاج، أو أكثر، من قبل مجموعات صغيرة.
سريعاً، بدأ تجهيز المدارس الرسمية في المدينة وفي القرى المختلفة، عبرين، بجدرفل، شبطين، جران... بتنسيق عفوي بين القائمقامية والمواطنين، وخصوصاً من تياريْ «المردة» و«الوطني الحرّ». وعلى رغم الإعداد الأوّلي، كان الشعور في الأسبوع الأول بأن هناك أشخاصاً جدداً في المدينة، يحملون منازلهم في سياراتهم، هائمين.
امتلأت المدارس الرسمية في المدينة بسرعة، وظهرت بعد يومين، الحاجة إلى استخدام مدارس القرى. تمّ ذلك أحياناً بضغط من القائمقام السيدة إلهام الدويهي، التي اضطرت إلى استعمال صلاحياتها لإلزام بعض المديرين المترددين، على فتح المدارس، تنفيذاً لقرار وزير التربية. وكان مخفر البترون يرسل دورية للإشراف على الموضوع.
بعض النازحين الميسورين استأجر شققاً مفروشة، أو شققاً فارغة فرشها بواسطة أثاث التهجير: فرش الإسفنج وصحون البلاستيك. آخرون استضافهم أبناء المنطقة في منازلهم، ممن يعرفونهم، أو ممن تعرفوا بهم في حينه، وفي هذا المجال علاقات عديدة استمرّت حتى اليوماستنفار كامل عمّ مكتب التيار لتسهيل الأمور: لوائح اسمية مع تحديد مكان وجود كلّ عائلة، وأعمار أفرادها، والحالات الصحية الخاصة من أجل تلبية الحاجات الضرورية: حليب وحفاضات للأطفال، أدوية للأمراض المزمنة ولتلك الطارئة. أما الأطباء المتطوّعون، من «الحزب الشيوعي اللبناني» و«التيار» والمتطوّعين الفرديين، فكانوا يقومون بجولات في مراكز إقامة النازحين، أو يعالجون حالات مستعجلة في المستشفى أو في عياداتهم.
طبيبة الأطفال د. أمال طرابين، وزملاء لها، د. نقولا حوشان ود. شوقي موسى وغيرهما، جالوا في المدارس ومراكز النزوح الأخرى، وعاينوا الأطفال. تقول طرابين:
«فوجئنا بعدد حالات اللوكيميا لدى الأطفال. أما الحالات الأخرى، فكانت عبارة عن أمراض جلدية مستجدة بفعل التنقل والتغيّر السريع لنمط الحياة والنقص في المستلزمات الضرورية. وما لفتني كان الاندفاع الكبير من قبل المواطنين العاديين. قدّموا كلّ شيء من ممتلكاتهم الخاصة، لكنّ ذلك لم يحلّ مشكلة الحاجة الماسة إلى أدوية معينة، وخصوصاً في البداية. أذكر هنا أننا قمنا باتصالات مضنية للحصول على دواء للربو. كذلك بالنسبة إلى السكري وضغط الدم. ما يؤلم هو أن الأجهزة الرسمية كانت في حالة موت سريري. الأفراد قاموا بما يفوق ما قامت به الدولة على كل الأصعدة. أمر معيب، هذا شعبها، فلترسله إلى دولة أخرى إذا كانت غير مهتمة به!».
ومن الحالات التي أقل ما يمكن القول إنها طارئة، نساء حوامل وصلنَ من بيروت أو الجنوب إلى مستشفى البترون مباشرة، وولدن هناك أطفالاً حملوا أسماء بترون وسليمان... وحسن
طبعاًالخبز متوافر، يتبرّع به صاحب «أفران شدرا» في عكار. خمسمئة ربطة تصل يومياً إلى مكتب التيار في المدينة، تكفي النازحين في المنطقة إضافة إلى الموجودين في جبيل والكسليك. ينطلق المتطوعون صباحاً، يوزّعونه من ضمن حصص تحوي المعلبات والخضر وغيرها، ويوضّبها عشرات الأشخاص. تصل الحصص إلى منسّقي التيار في القرى، ويتمّ إيصالها من هناك إلى مراكز النزوح. لم ينقطع الخبز إلا ليومين، بعد قصف الجسور التي تربط المنطقة بقضاء عكار. بعد ذلك، تدبروا الأمر عبر طرق فرعية.
سيلفانا نخلة، من التيار الوطني الحرّ، كانت تستقبل العائلات، تنظم استمارة تدوّن فيها كلّ شيء. تقول: «منذ اليوم الأول كان التوافد كبيراً. كانوا يشعرون بالإحراج، لكن الامتنان كان أكبر». وتصف حنان ناصيف، الناشطة في التيار، مشاعرها آنذاك: «صار العمل مع النازحين كالوظيفة اليومية، لكنها وظيفة محببة. أستيقظ صباحاً، أذهب إلى المكتب، ثم أنطلق لتوزيع الحصص والسؤال عن حاجات الناس. كنت أشعر بأن ذلك واجبي الإنساني والوطني».
أنور سعاده وشاحنته متعددة الاستعمالات لم يهدآ أبداً. «في المحن تعرف حقيقة الأشخاص ومدى إنسانيتهم»، يقول، «كنت أنقل الفرش والمواد الغذائية من مستودعات في مناطق أخرى إلى البترون يومياً، وأشعر بأن هذا أقلّ ما يمكن فعله». ولا تنسى لارا عبد الله، المسؤولة حينها عن المخازن والتوزيع في هيئة القضاء، «ذلك الكهل الذي بكى، لأن كل ما يملك دمرته الطائرات في لحظة، وهو الآن يطلب المأوى له ولعائلته. كان من عمر أبي».
الساعة السابعة من صباح يوم الاثنين 14 آب، وصلت تيريز مفرج إلى مكتب التيار، لتجد امرأتين محجّبتين تنتظران، «كانتا تريدان أن نوفّر لهما أي وسيلة نقل، سيارة أجرة، أي شيء، لنقلهما إلى الجنوب حالاً».
الآلاف انتقلوا في غضون ساعات إلى منطقة بعيدة عن الأماكن التي
ألفوها.
وفي صبيحة الرابع عشر من آب، قبل صياح الديك، اختفى فجأةً ما يقارب خمسة آلاف إنسان، حاملين معهم تجربة إنسانية جديدة، فريدة بالنسبة إلى مجتمع دأب على الانقسام والتناحر، مخلّفين وراءهم سيلاً من التساؤلات والحقائق ساعدت على إعادة النظر في الكثير من البديهيات اللبنانية المفترضة، وتاركين عناوينهم في الجنوب والضاحية مع دعوات مفتوحة لزيارات تمّت منذ ذلك الحين، ولا تزال.

تصويب

سقط سهواً في عدد أمس من الملحق اسم الشهيد المقاوم وسام ياغي الذي استشهد ليلة الإنزال الاسرائيلي على مستشفى دار الحكمة، والمواطنة نسرين سلوم وجنينها.
فاقتضى التصويب مع الاعتذار من أهالي الشهداء.


نزايد على السيد حسن؟
تسعمئة نسمة هم أهل بلدة رشكيدا، القرية الشيعية في قضاء البترون، واستقبلوا تسعمئة آخرين خلال عدوان تموز.
لذلك تحولت هذه القرية إلى خزّان للشائعات. عائلات خائفة انتقلت من الجنوب والضاحية والتجأت إليها فجاء من يقول لها، من خارج القرية، إن إسرائيل سوف تقصفها هناك أيضاً لأنها نقلت معها صواريخها عند النزوح. بعضهم سخر من الشائعة فيما فضّلت قلة قليلة مدرسة عبرين المجاورة وثانويتها.
إمام البلدة، الشيخ رضا أحمد، يخبر عن التجربة التي يعتبرها إيجابية على رغم مرارتها: «لم يبدأ الناس بالإقامة في «مجمّع الإمام الباقر» وفي حسينية القرية إلا بعدما امتلأت المنازل كافة. كثيرون منّا أرسلوا عائلاتهم إلى أقرباء لهم في قضاء عكار لاستقبال النازحين في منازلهم. لكن لن ينسى أحد ما فعله أهل القضاء بكامله، أو أغلبيتهم الساحقة. تمّت الأمور بشكل تلقائي، وشعرنا حقّاً بأن هذا هو لبنان الحقيقي، لبنان كما نرجو أن يكون وأن يبقى. أهلنا النازحون تركوا كلّ شيء، وكانوا مستعدين لتقديم أي شيء من أجل الوطن، وما فعله الناس في قضاء البترون جعلهم يثقون بصوابية قرارهم».
خلال أيام المحنة، كان التنسيق كاملاً بين الشيخ رضا والأب مفرّج والمونسنيور خير الله والأب خشّان، «كنّا جميعاً لبنانيين من دون تفرقة. لهذا أشكر بشكل خاص قائمقام البترون السيدة إلهام الدويهي التي قامت بكل ما يمكن للتخفيف من وطأة العدوان على أهلنا النازحين».
ويؤكد أنه لن ينسى أحد ما فعله «التيار الوطني الحرّ» و«تيار المردة» والناس العاديون في المنطقة بكاملها، «شخص من عبرين استقبل ثلاث عائلات في منزله مدى أيام العدوان، لن أزايد هنا على سماحة السيّد حين قال إن هذا دَين علينا حتى يوم القيامة».
ويذكر الشيخ رضا أنه عقد قران شاب وفتاة من النازحين إلى ثانوية البترون الرسمية، في مبنى الثانوية نفسها، وكانا قد تعرفا ببعضهما هناك. «ما زال العديد من ضيوف تلك الفترة يزورون رشكيدا، وعائلات منها تذهب إلى الجنوب والضاحية للاطمئنان إلى رفاق أيام الضيق».

نحن الضيوف وأنتم أهل المنزل
11 تموز 2007. يقف علي عباس (70 عاماً) على شرفة منزله في حارة حريك ويلوّح من الطبقة الرابعة للضيوف القادمين لزيارته: إنهم ملكة وليال وغدي سمعان بوموسى أبناء بلدة عبرين البترونية المجاورة لرشكيدا، الذين استضافوا عباس وعائلته الكبيرة في منزلهم طوال أيام الحرب.
علاقة خاصة نشأت بين العائلتين. يتذكر الشيخ رضا أن سمعان قدم إلى منزله وأصرّ على استقبال عائلات قد تضيق بها الأمكنة في منزله الذي يعيش فيه مع أخته ملكة وأولاده الثلاثة، ليال وربى وغدي.
أما علي عباس، ابن بلدة الطيبة الجنوبية، فقد انتقل مع بدء العدوان إلى منزل ابنته في الضاحية الجنوبية ترافقه ابنته العازبة نوال وحفيده عامر وانضمّت إليهم الابنتان الأخريان وداد وأمال وأطفالهما السبعة. عندما قُصف الجسر عند أوتوستراد هادي نصر الله، انتقل الجميع إلى جبيل حيث استأجروا شقة. لاحقاً ندم صاحب الشقة لأنه استقبلهم فراح يخيفهم بإطلاق الشائعات عن إمكانية استهداف الشقة بالقصف. شعروا بالانزعاج، واتصلوا بالشيخ رضا في رشكيدا.
هكذا اجتمع آل عباس بآل بوموسى في منزل الأخير في عبرين، وعاشت العائلات الأربع معاً لأكثر من 33 يوماً. أُعلن وقف العمليات العسكرية، ولم يرضَ الصغار، قبل الكبار، بترك ضيوفهم يرحلون.
تقول نوال عن تجربة النزوح: «لا أريد أن أقول جملاً قد تبدو تقليدية، لكن ما حدث معنا لا يصدّق. هؤلاء الناس غير معقولين. منذ اليوم الأول زال الإحراج تماماً، وصرنا عائلة واحدة. كانوا يطفئون الأنوار عند مرور الطائرات لئلا نخاف بعد تجربتنا في بيروت. ساعدونا حتى في العودة إلى منزلنا. حتى إني عدت وأمضيت أسبوعاً في عبرين خلال شهر أيلول. سيكونون أصدقاءنا إلى الأبد».
يسأل علي عباس عن فلان وفلان من عبرين «هل زرعتم الأرض التي خلف المنزل؟ وكيف سمعان، اشتقنا له». ليال بوموسى ابنة العشرين ربيعاً تتذكّر ما شعرت به عندما رحلوا: «لم أكن أريد أن أبكي أمام الآخرين، فبقيت في غرفتي أدّعي أنني نائمة».
علي عبّاس تضرّر منزله في حارة حريك بشكل كبير، كما منزله في الطيبة. أصلحهما، وكسب منزلاً آخر دافئاً في بلدة عبرين، كما يقول.