جان عزيز
لا يزال رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر، يؤكد أن المبادرة البطريركية لإيجاد تسوية لانتخابات المتن الفرعية، لم تنته. وهو لا يزال متمسكاً بفرصة أخيرة للمسألة، مع احتمال صدور موقف في هذا الشأن اليوم. غير أن الذين التقوا مرشح الموالاة، الرئيس أمين الجميل، في دارته في بكفيا بعد مغادرة المطران مطر في وقت متأخر أول من أمس، رجّحوا من دون تردّد أن يتّجه الجميل الى رفض مبادرة الديمان، أو على الأقل أكدوا أن العرض الذي حمله رئيس أساقفة بيروت إلى الكتائب، كان من النوع الذي «يذبح» بمأزقيته. فهو يقع فعلاً بين استحالتين، استحالة أن يرفضه، كما استحالة أن يقبله. وهو المأزق الذي حاول الجميل الالتفاف عليه عبر مناورة الاعتراض على عبارة في البند الأول، من دون التطرق إلى جوهر المبادرة.
لماذا يستحيل على الجميل رفض العرض؟ لأنه تبيّن في النهاية أن ميشال عون في هذا المجال لاعب شطرنج من الطراز الأول. فبعد أكثر من أسبوع على انطلاق مبادرة الموارنة، وبعد ما وصف بتريث الرابية وعدم تجاوبها، وقع الجميل وحلفاؤه في الخطأ. فأعلن مرشح الموالاة في 28 تموز الماضي، أي قبل 72 ساعة فقط من صدور مبادرة الديمان، أنه «حرصاً» على مصلحة المسيحيين ومنعاً للتشرذم والانقسام وضعنا قرارنا في يد غبطة البطريرك».
وأضاف الجميل: «وضعنا أنفسنا في تصرف أي مبادرة من بكركي»، وانتقد في شكل عنيف من يتعنت إزاء الصرح البطريركي، من يتنصّل «من كل إرشادات بكركي وتمنياتها». وفي الوقت نفسه اندفع مسيحيو السلطة في الخطأ نفسه فأعلنوا أنهم يلتزمون ما تفصّله بكركي.
فجأةً، جاءت مبادرة الديمان خطية، ومؤيدة بموافقة ميشال عون، فبات أولئك في وضع استحالة الرفض.
أمّا في المقابل، فمن أين تأتي استحالة القبول بالطرح البطريركي؟ فهذا ما يعزوه المطلعون إلى الأسباب الآتية:
أولا ًـــــ وكما بات معروفاً، فإن قبول الجميل بطرح صفير لجهة أن يكون انسحابه من المعركة اعتراضاً على لا قانونية مرسوم الدعوة إلى الانتخابات، يعني موافقته على لا شرعية غالبية عمل الحكومة القائمة، منذ 13 تشرين الثاني الماضي، تاريخ استقالة ستة من الوزراء، وتاريخ بدء تمنّع الرئيس إميل لحود عن توقيع مراسيم الحكومة ومقرراتها. وهذا ما يعني بالتالي إقرار الجميل بعيب قانوني ودستوري وميثاقي ما، يعتري وضع الفريق الذي ينتمي اليه.
ثانياً ـــــ أن قبول الجميل بمبادرة الديمان يعني إقراره بترجيح وجهة نظر ميشال عون، الذي كان قد أكد منذ اندلاع المواجهة الانتخابية الأخيرة أن الحل الممكن هو بانسحاب الجميع، بما يؤمّن المصلحتين المهدّدتين معاً: عدم الصدام المسيحي المتني، وحفظ صلاحيات الرئاسة، بقطع النظر عن شاغلها. وهذا الإقرار يعني في طياته اعترافاً بالشرعية الشعبية لعون من جهة، كما بالمشروعية الميثاقية لطروحاته. وهو تماماً ما حصل عند شغور مقعد بعبدا الماروني بغياب الراحل إدمون نعيم. يومها، ومنذ اللحظة الأولى أكد عون أن التوافق يكون على اسم بيار دكاش، وإلّا فالحسم في صناديق الاقتراع. وإزاء إدراك مسيحيي السلطة تفوق عون الشعبي في تلك الدائرة، اقتصر سعيهم على محاولة تبديل الاسم التوافقي. حتى إنهم طلبوا يومها من السفير الفرنسي برنار إيمييه تبنّي اسم آخر وطرحه على عون من عندياته. وهو ما فشل تماماً، ليعود الجميع الى التسليم بخيار عون، وضمناً الاعتراف بتفوقه التمثيلي. لذلك، فإن أي تكرار للآلية، يعني التسليم نفسه مرة ثانية وفي المتن الشمالي أيضاً. رغم كل التسويقات الإعلامية المغايرة لمسيحيي السلطة، على مدى العامين الماضيين.
ثالثاً ـــــ بدا واضحاً أن ماكينة سياسية وإعلامية و«قدراتية» كاملة، عُبّئت لإقناع الجميل بفرص الفوز في الاستحقاق.
واللافت، كما أكد مطلعون على أدبيات هذه الماكينة، أنها تضمّنت رهانات على مواقف الطاشناق وميشال المر ونبيه بري وحزب الله، وحتى الرهان على موقف سوريا حول الانتخاب المتني. إذ حملت هذه الأدبيات المسوّقة، قراءات مفادها أن الأرمن لن يعبّئوا طاقتهم الانتخابية القصوى. وأن المر سيكون على الحياد. وأن الثنائية الشيعية لن تكون مهتمة جداً بفوز مرشح عون، بما يسمح لها بالتنصّل من التزامها الرئاسي حياله، وبالتالي الدخول في تسوية يعوقها وفق تلك الرواية، حجم الحليف المسيحي العوني. ومفادها أخيراً أن لدمشق نفسها مصلحة في خسارة عون، لإزاحته نهائياً من الحسابات الرئاسية لدى بعض الغرب، لكونها تفضل قطعاً التفاوض مع تلك العواصم على اسم رئاسي وسطي يكون حكماً أقرب اليها.
هكذا قدّمت هذه الماكينة الدعائية أرقاماً تقديرية توحي بفرص الفوز الكبرى للجميل، وهو ما ساهم في استحالة قبول مبادرة البطريرك.
رابعاً ــــ وظل السبب الأخير، تناقص احتمال التسوية بين عون والجميل، مع حسابات حلفاء الأخير في جعل المتن أرض تصفية إمّا لخصم كبير، وإمّا لحليف مزعج.
هكذا اكتملت حلقة الاستحالتين: لا الرفض ممكن ولا القبول كذلك. في 23 أيلول 1988، تردّد كثيراً أن أمين الجميل ضرب ضربة المعلم، حين جعل ميشال عون وسمير جعجع في مواجهة ستنهي الاثنين معاً. في 5 آب 2007. يبدو أن ثمة من غيّر عنصراً واحداً في المعادلة ليظل عون الثابت في الاستهداف ومحاولة التصفية.