نقولا ناصيف
بعد إخفاق كل الجهود لتجنيبهما مواجهة قاسية في الانتخاب الفرعي في دائرة المتن، الأحد المقبل، لم يعد أمام كل من الرئيسين أمين الجميّل وميشال عون إلا أن يهزم أحدهما الآخر. وبات الهدفان الوحيدان اللذان يطبعان معركتهما هما:
ـــــ تسابقهما على اجتذاب كتلة من الناخبين المستقلين تقدّر الإحصاءات المتوافرة لدى الطرفين حجمها بـ10 الآف صوت لم تقرّر بعد إلى أي منهما تنحاز، ولم تحدّد على نحو قاطع خيار ملازمة البيوت والامتناع عن المشاركة في الاقتراع. إذ رست نهائياً التحالفات السياسية المتصلة بمواجهة هذا الاستحقاق، وأدرك كل من الطرفين أقصى ما لديه من أصوات مؤيدة.
ـ إطلاق العنان للإعلام، المرئي خصوصاً، في الحملة الانتخابية على نحو يُشعِر كلاً من الجميّل وعون بأن الوسيلة الوحيدة لتعزيز فرص الفوز هي انتزاع أصوات من خصمه، أكثر منها وثوقه بأنه يملك العدد الكافي منها والذي يؤهّله للحصول على المقعد الشاغر. وتبعاً لذلك، فإن تلفزة المواجهة هي السلاح الأخير في يدي الزعيمين المارونيين بغية فتح الدفاتر القديمة ونبش الماضي والقبور وتوجيه الاتهامات سعياً إلى التأثير المتبادل على الرأي العام المتني، وإحداث تغيير جوهري في اتجاهاته.
ويمثّل هذان الهدفان تراجع الهامش الواسع في الأصوات الذي يميّز عون عن الجميّل، من غير أن يحسم بالضرورة ـــــ وسلفاً ـــــ نتائج الاقتراع الذي سيكون عرضة لمفاجآت. وهكذا فإن الساعات الـ 48 الفاصلة عن موعد الاقتراع تتركز على سبل التوصل إلى اجتذاب أصوات، مقدار ما سترسم النتائج التوازن السياسي والشعبي الجديد في المتن، كصورة معبّرة عن جزء من الشارع المسيحي. وفي أبسط الأحوال، سيخلّف الانتخاب الفرعي معطيات مختلفة عن تلك التي أفضت إليها انتخابات 2005:
أوّلها، تحديده الحجم السياسي والشعبي للنائب ميشال المر وموقعه في معادلة الصراع بين الجميّل وعون، والتحقق من إمكان وجود طرف ثالث غير ماروني وفاعل في توازناتها. ويبدو الرجل في الانتخاب الفرعي أمام امتحان تأكيد قوته التجييرية للأصوات المؤيدة له كعامل مقرّر لتغليب لائحة على أخرى. وبعدما نجح في انتخابات 2005، بالتحالف مع حزب الطاشناق، في تجيير 15000 صوت إلى اللائحة التي كان يدعمها عون، يصطدم اليوم بأكثر من عقبة من شأنها التأثير على القوة التجييرية للأصوات تلك، سواء عُزي السبب إلى أن الانتخاب سيكون فرعياً، لتبرير عدم الحماسة والإقبال الكثيف، أو إلى ضعف المرشح الذي يواجه الجميّل، وإذذاك لا تحتاج المفاضلة بينهما إلى جهد موصوف، أو إلى أن الأصوات الـ7000 الموالية للمر منذ انتخابات 1992 ذات الجذور الكتائبية هي التي قرّرت الاقتراع للجميل. بذلك تكون القوة التجييرية الجديدة للمر وحليفه حزب الطاشناق برسم اختبار صعب، وقد لا تكون كافية هذه المرة لتغليب مرشح على آخر.
ثانيها، لم يعد الانتخاب الفرعي يتوخى ملء الشغور في المقعد الذي خلا باستشهاد النائب والوزير بيار الجميل، وإنما أحال التنافس الانتخابي معركة على الزعامة السياسية والشعبية في منطقة لم يحتكر زعامتها يوماً بيت سياسي واحد منذ انتخابات 1960. كانت قد تعايشت مع هذه الزعامة شخصيات بارزة متنية كموريس الجميل (ومن بعده أمين الجميل) وجميل لحود وسليم لحود وألبير مخيبر وميشال المر وفؤاد لحود، وغير متنية كالرئيس كميل شمعون، قبل أن تدفع الحقبة السورية في لبنان إلى تكريس زعماء المناطق. أمسك المر بالسيطرة على المتن في انتخابات 1992 و1996 و2000، ثم عون كردّ فعل على الوجود السوري في انتخابات 2005.
ويأتي تنافس الجميل وعون اليوم على الانتخاب الفرعي لتكريس زعامة آحادية على المنطقة، بشهادة تلاسنهما ومفردات تخاطبهما وأسلوب التشهير المتبادل. ولذلك يسود انطباع وهمي في أوساط الزعيمين المارونيين وأنصارهما، مفاده أن انتصار أحدهما هزيمة للآخر، كافية لإخراجه من المعادلة السياسية والشعبية: فوز مرشح عون كي يكرّر السابقة التي اخترعها شمعون في انتخابات 1957 عندما فاز خليل الهبري على الرئيس صائب سلام في بيروت، ورضا وحيد على الرئيس أحمد الأسعد في صور، وقحطان حمادة على كمال جنبلاط في بعقلين ـــ جون. وكي يكرّر أيضاً انتقاماً سياسياً مضاداً عندما نجح جنبلاط في انتخابات 1964 بمؤازرة الرئيس فؤاد شهاب في إسقاط شمعون وإحلال سامي البستاني في مقعده.
ذاك هو المقصود، في بعض التقاليد الانتخابية اللبنانية، عندما تُسقط «عصا» زعيماً سياسياً. بيد أن العبرة أظهرت كذلك على مرّ الزمن والتجارب أن العصا لم تصبح مرة زعيماً.
والواضح أن مواجهة عون للجميل تعبّر عن تلك التجربة في بعض جوانبها. إلا أن خسارة أي منهما المقعد لا تمثّل، في واقع الأمر، ما توحيه معركتهما الانتخابية: لا انتصار الجميل يلغي عون ما دام الأخير لا يزال يمسك بسبعة من النواب المتنيين الثمانية ورئيساً لتكتل نيابي من 22 نائباً، ولا انتصار عون يفقد الجميل موقعه في قلب المعادلة المتنية والمسيحية كونه يصبح حينذاك «شهيداً» سياسياً.
ثالثها، أن حمأة المواجهة على الانتخاب الفرعي ودخول أكثر من طرف غير متني على خطه، لا يعدو كونه ترجمة للمأزق السياسي الحاد الذي يتخبّط فيه أفرقاء النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة. ويكمن هذا التخبّط في أنهما أضحيا عاجزين تماماً عن إيصال الوضع الداخلي إلى تسوية سياسية شاملة بخيار داخلي ومستقل، وعاجزين كذلك عن إغراق البلاد في نزاع دموي بغية الخروج من المأزق، وعاجزين أيضاً وأيضاً عن السيطرة والاستئثار بإجراء الاستحقاق الرئاسي. كل ذلك يجعل من معركة انتخابية على مقعد حرباً بين مشروعين سياسيين متناقضين، كل منهما يعاني الاختناق. إذ تحتاج قوى 14 آذار من خلال فوز الجميل إلى انتصار معنوي كبير ـــ أو على الأقل إظهاره أنه كبير ـــ كتعويض عن تفكك أكثريتها المطلقة في انتخابات الرئاسة. وتحتاج المعارضة من خلال فوز مرشح عون إلى انتصار معنوي كبير كذلك يسقط في الشارع القرار الحكومي بإجراء الانتخاب الفرعي بغية الطعن بشرعيتها وشرعية قراراتها في وقت واحد، ويعزّز حظوظ الجنرال كمرشح قوي للرئاسة.
كل ذلك مع معرفة الطرفين أنهما، منفردين ومجتمعين، عاجزان أكثر فأكثر، رغم غطرسة بعضهم وأوهامه، عن إجراء انتخابات رئاسية ينتصر فيها وحده.