أنطوان سعد
أثبتت القيادات السياسية المارونية، مرة جديدة، أن مصالحها السياسية وحساباتها الضيقة والاعتبارات التي تفرضها عليها تحالفاتها، تتقدم على سائر الاعتبارات الأخرى، أكانت خير قواعدها الشعبية أم احترام توجهات البطريركية المارونية وتوجيهاتها. وما ادعاء الالتزام بسقف بكركي ورغبة سيدها الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، سوى وسيلة لتحييده ولكسب تأييد الكتلة الشعبية الوسطية الواسعة التي لم تعد تثق إلا بسيد بكركي.
الجديد الذي تفرضه معركة المتن هو أن قوة المعسكرين المستعدين للنزال الانتخابي متقاربة إلى حد كبير، ما يجعل الرضى البطريركي، أو عدمه، على هذا الفريق أو ذاك عنصراً حاسماً قد يرجّح خسارة الطرف الذي سيظهر رافضاً للمسعى البطريركي. هذا المسعى الذي يقوده المطارنة رولان أبو جودة وبولس مطر وسمير مظلوم، بتوجيه مباشر من البطريرك صفير، بخلاف ما حاول الرئيس الأعلى لحزب الكتائب الرئيس أمين الجميل تصويره بعد زيارته للديمان الأربعاء الماضي للتقليل من شأن رفضه التجاوب معه. وقد عمدت المؤسسات الإعلامية الموالية، أمس، إلى التعتيم على موقف البطريرك الماروني الذي تبنّى فيه المسعى. وكان لافتاً أن تقتطعه «المؤسسة اللبنانية للإرسال» التي طالما كانت حريصة على أن تكون صوت بكركي، في نشرة الثامنة بعدما كانت قد بثته في الثالثة بعد الظهر.
في أي حال، ليس جديداً أن يتم إهمال كلام سيد بكركي من جانب اللاعبين السياسيين الحاليين ووسائل الإعلام التابعة لهم أو تلك الخاضعة لتأثيرهم ابتداء من عام 1986 حتى اليوم. فإبان الانتخابات الفرعية في صيف عام 2002 في المتن الشمالي، بالذات، لملء المقعد الشاغر بوفاة النائب ألبير مخيبر، كان للبطريرك صفير تمنّ بتزكية ابن شقيقه، المحامي غسان، فرفض الرئيس الجميل والنائب آنذاك نسيب لحود هذه التزكية وخاضا معركة قاسية أسفرت عن ضحايا كثيرة ليس أقلها تلفزيون «أم تي في» ولقاء قرنة شهوان الذي تصدّع منذ ذلك الحين. وكذلك رفض العماد ميشال عون تمني سيد بكركي عليه بتزكية نجل النائب الراحل بيار حلو، هنري، في خريف العام التالي.
أمّا دعوة البطريرك الماروني لتزكية أحد أقرباء السياسي المتوفّى فليست لميل محافظ لديه، أو لإيمانه بالإقطاع السياسي أو العشائري. فهو حفيد من كان يكتب خطب الثائر ضد الإقطاع في القرن التاسع عشر طانيوس شاهين وعلاقاته بآل الخازن ـــــ باستثناء بعضهم ممن يكنّ له تقديراً كبيراً ــ معروفة بكونها غير جيّدة. كما أن النائب السابق الياس الخازن لا يزال يروي كيف نهره المطران صفير عام 1975 خلال الانتخابات البطريركية التي فاز بها البطريرك أنطونيوس خريش لأنه استغل وجوده في بكركي، كحارس لها، وقام باتصالات مع الرئيس الراحل سليمان فرنجية، قائلاً له: «إن دوركم في الحراسة بروتوكولي بحت».
إن الرغبة في التزكية في عامي 2002 و2003 كانت في الواقع من أجل تجنيب الصف المسيحي الذي كان يخوض مواجهة قاسية مع الهيمنة السورية، الانقسام والتلهي بفتات مقعد من هنا وهناك للبقاء صفاً واحداً في وجه الاستخبارات السورية. يومئذ قال سيد بكركي لأحد أخصامه المقربين إليه: «قلنا بتزكية ابن مخيبر حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، كما العادة، ويتشرذموا وينقسموا بعضهم على بعض، فيضعفوا وندفع جميعاً ثمن انقسامهم. ليبقوا موحّدين الآن وليرونا قوتهم وقدراتهم في الانتخابات العامة عام 2005، إذا بقوا موحدين حتى ذلك التاريخ فستصبح الانتخابات فرصة لتحرر لبنان، أمّا إذا انقسموا فسيضيعون علينا استحقاقاً آخر». وفي هذا الإطار فقط تندرج أمنية البطريرك الماروني في تزكية هنري حلو واليوم الرئيس الجميل. إذ إنه يعرف أن مقاربة استحقاق رئاسة الجمهورية بصفوف موحّدة من شأنها أن تخفف من المخاطر المحدقة بالبلاد، أما إذا حان موعد الاستحقاق، والمسيحيون في مثل الأجواء الراهنة، فيصبح حصوله دون مشاكل أشبه بالمعجزة الكبيرة التي اعتاد اللبنانيون أن يطلبوها في كل مرة يتسببون فيها بوقوع أزمات عويصة.
«عملنا اللي فينا نعملوا، ولا يجوز لنا أن نقطع الأمل»، بهذه العبارة يختصر أحد الأساقفة الثلاثة نتيجة المسعى البطريركي الذي قاموا به. وقد انتهى إلى محاولة الرئيس الجميل التهرب من الإجابة عنه عبر إرسال مندوبَين عنه، على مستوى فكري رفيع، لكنهما غير مؤثرين على قراره. وكان في الواقع مؤسفاً أن يقوما هما بالذات بمحاولة شراء الوقت، والمماطلة مع بكركي كي لا يظهر الرئيس الأعلى للكتائب مسؤولاً عن إجهاض مسعاها.