جوزف سماحة
الاجتماع الأخير في فنلندا لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي حمل جديداً. بدا كأن هذه الهيئة بلغت، فجأة، سن الرشد وتريد انتزاع حقها في التفكير المستقل والكلام الحر.
حصل الاجتماع على وقع «الإنزالات» العسكرية، أو وعود الإنزالات، في جنوب لبنان. المهمة خطيرة وحسّاسة. الآلاف يشاركون فيها. «قواعد الاشتباك» توحي بقدر من الجدية. لم يكن ممكناً لهذه المهمة أن تتحقق من دون أن يرافقها خطاب على مستواها.
ردّد غير وزير مشارك أن «أوروبا تستيقظ»، وأن المساهمة في تطبيق 1701 هي حد فاصل بين تاريخين بما يعني أن الشلل الأوروبي في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط ينتمي إلى ما قبل التاريخ.
«نريد دوراً» قال وزير. أضاف: «سنبحث في كيفية استثمار الوجود العسكري في لبنان لبدء مفاوضات إقليمية». وأوضحت مفوّضة العلاقات الخارجية بينيتا فيريرو فالدنر أن المجتمعين سيبحثون في «إحياء مؤتمر دولي لتشجيع الاتصالات بين إسرائيل والفلسطينيين». وزير خارجية السويد هو الذي أشار إلى «يقظة أوروبية»، داعياً إلى «تعميق الدور والوجود السياسيين لأوروبا». استطرد: «نريد أن نكون شركاء ذوي صدقيّة لسكان المنطقة وحكوماتها ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وحتى في القضايا الأمنية».
الألماني فرانك شتاينماير ذهب إلى أن الاهتمام يتجاوز «السلام على الحدود الشمالية لإسرائيل» ليطال «لبّ النزاع وحلّه، أي العلاقات الإسرائيلية ــ الفلسطينية». أما الوزير الهولندي فرأى أبعد من القوة المؤقتة في جنوب لبنان. الوقت، في رأيه، هو «وقت تحريك المحادثات والمفاوضات في شأن مشروع السلام في الشرق الأوسط». منسّق شؤون الدفاع والسياسة الخارجية خافيير سولانا عبّر عن الأمل بـ«تحريك عملية السلام المركزية»... ويمكن الاستطراد في نقل التصريحات والمواقف التي تشي برغبة الاتحاد الأوروبي في الإقدام والتدخل.
لا يمكن أن ننسب إلى ما حدث في لبنان وحده هذه الاستدارة التي جعلت الاتحاد الأوروبي يكتشف نفسه. إلاّ أن العدوان على لبنان وما أسفر عنه جاء ليتوسّط ماضياً مثقلاً بالمواجهات والمخاطر ومستقبلاً مفتوحاً على احتمالات أشد عنفاً وضراوة. وفيما كانت الوقائع تؤكد صحة المقاربة الأوروبية السابقة لمعالجة أزمات المنطقة، فإنها، في السياق نفسه، كانت تشير إلى هذا الغياب الأوروبي وإلى تبعات الانفراد الأميركي ــ الإسرائيلي.
بدا كأن الأوروبيين قادمون سياسياً إلى المنطقة، وأن ما يجري في الجنوب اللبناني هو «إنزال سياسي» سيمتد من شاطئ المتوسط إلى الداخل العربي كله.
العودة الأوروبية محمودة في حد ذاتها. وكل تدخل يلغي الأحادية الأميركية هو خطوة في الاتجاه الصحيح. غير أن التدقيق في عدد من المواقف يقود إلى التقليل من حجم التفاؤل.
أولاً ــ عندما يتحدث معظم الوزراء الأوروبيين عن «تحريك عملية السلام» فإنهم يوحون أن المقصود بذلك إحياء «خريطة الطريق». يفوتهم أن هذه «الأداة» لم تعد ذات جدوى. يفوتهم أنها كانت مدعاة إلى تهميشهم. يفوتهم أن الخطوة السياسية المقبلة، في غضون أسابيع، هي الدعوة العربية إلى تدويل النزاع وإعادته إلى مجلس الأمن. يفوتهم أن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة وجّه ضربة قاسية إلى «الخريطة» لأنه أنهى جوهرها القائم على «الخطوات المتوازية». يفوتهم أن إيهود أولمرت ألغى «خطة الانطواء» في الضفة. يفوتهم أن الوضع الداخلي في إسرائيل قد يعزز الاتجاهات اليمينية القصوى. يفوتهم أن المطلوب لم يعد «خريطة طريق» تقود إلى عتبة التفاوض حول القضايا النهائية، بل الدخول في صلب هذه القضايا. يفوتهم أن «الخريطة» لا تعالج قضايا الأرض العربية المحتلة كلها. الإشارة إلى هذه «الخريطة» هي عودة إلى ماضٍ مضى وليست دليلاً على «يقظة» جديدة.
ثانياً ــ استغلّ بعض المسؤولين الأوروبيين هذه المناسبة من أجل تمرير موقف سبق لجورج بوش أن أعلنه في رسالة الضمانات الشهيرة إلى أرييل شارون. ففي رأي الناطقة باسم سولانا، باتت العودة، في الضفة، إلى حدود 67، مشروطة بـ«تعديلات صغيرة على الحدود يُتفق عليها». إن أي انطلاق من هذه النقطة يوصل إلى إجازة لإسرائيل باستمرار الاستيطان والضم الزاحف من دون أي مقابل.
ثالثاً ــ يتبدّى في ثنايا كلام الأوروبيين الانحياز الذي شهدناه في المرحلة الأخيرة نحو الموقف الأميركي ــ الإسرائيلي. العقبات في وجه السلام هي إما «استمرار العنف الفلسطيني» وإما امتناع «حماس» عن قبول الشروط المسبقة المفروضة عليها، وإما تأليف حكومة وحدة وطنية فلسطينية بشروط محمود عباس... تخلو التصريحات كلها من إدانة للاحتلال، وللعنف المُمارس ضد الفلسطينيين. ويفوت الوزراء الأوروبيين التنبّه إلى أن عدد القتلى الفلسطينيين خلال العدوان على لبنان يفوق عدد الإسرائيليين الذين سقطوا أثناء الحرب.
بكلام آخر يمكن القول إن إيجابيات الرغبة الأوروبية في التحرك تنتقص منها الانحيازات الأوروبية المتزايدة نحو الموقف الإسرائيلي ــ الأميركي.
وتأتي الأيام التي انقضت منذ الإعلان عن «اليقظة» لتزيد حجم المخاوف. فإذا كانت هذه اليقظة شديدة الارتباط بالدور في لبنان، فمن الطبيعي أن يكون الرائز الأول لفاعليتها هو لبنان نفسه. وبهذا المعنى لا بد من الإشارة إلى فشل ملحوظ يتبدى في العجز عن «إقناع» إسرائيل برفع الحصار، بالرغم من تدفّق القوات الدولية.
يمكن الأوروبيين أن يعتقدوا، عن حق، أنهم قادمون من أجل تنفيذ حل تريده إسرائيل ويحتاج إليه أمنها. ويمكنهم أن يدركوا أنهم يفعلون ذلك بناءً على طلب إسرائيلي، ولو بشروط إسرائيلية معدّلة. ولكن من واجبهم الانتباه إلى أن ذلك، من وجهة نظر إسرائيل، لا يعطيهم حق التدخل في «القضايا الكبرى». إن مَن يعجز أمام الحصار يعجز عما هو أهم. هذه هي الرسالة الإسرائيلية إلى أوروبا التي تقول إنها أفاقت من إغفاءتها. لم تستيقظ أوروبا. إنها تتثاءب فحسب.

٥ أيلول 2006