باريس ـــ بسّام الطيارة
  • الدبلوماسيّة الفرنسيّة في حرب تمّوز


  • لا يمكن أن تمرّ العودة لإلقاء نظرة على الحرب الإسرائيلية من دون التوقّف عند مواقف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وخصوصاً أنه لم ينجح في «وقف العدوان» ولم ينفعه تقربه من الإدارة الأميركية ومراجعة مواقفه من حربها على العراق في التأثير على واشنطن لوقف الأعمال الحربية خلال حرب تموز. لا بل يرى المراقبون أن «النشاط الحركي» للدبلوماسية الفرنسية خلال 33 يوماً سمح للإدارة الأميركية بإطالة النشاط العسكري الإسرائيلي من دون ضغوط دولية

    في الأيام الأولى لحرب تموز، لم يكن الرئيس الفرنسي جاك شيراك يدرك كمّ الدمار الذي تستعد إسرائيل لصبّه على لبنان. كان ينظر إلى الأهداف التي يمكن أن يوصل إليها العدوان. فحدد في تصريح في ١٤ تموز أهداف الوفد الثلاثي الأممي الذي توجه إلى المنطقة لوقف النزاع بثلاث نقاط: «إطلاق سراح الجنديين الأسيرين، والوصول إلى وقف لإطلاق النار ودراسة الإجراءات الكفيلة بـ«حماية الحدود ومنع الاحتكاكات وإطلاق الصواريخ عبر الخط الأزرق»، التي وصفها بأنها «تصرفات غير مسؤولة ولا تأخذ بعين الاعتبار مصلحة المواطنين». ويرى اليوم بعضهم في هذا التصريح «محاولة شيراكية لتحصيل ما يراه جيداً للبنان».
    إلا أن الكشف عن حجم الخسائر التي ألحقتها ضربات الجيش الإسرائيلي بالبنية التحتية في لبنان جاء مع الأيام ليفرض على المسؤولين الفرنسيين تحوّلاً في التصريحات تجاه إسرائيل واستعمال تعابير قاسية جداً لوصف العمليات الإسرائيلية.
    وظهرت، لأول مرة منذ مدة غير قصيرة، تعابير مثل «شجب وإدانة» إلى قواميس الناطقين باسم الحكومة الفرنسية في وصف أعمال إسرائيل، وابتعدت التصريحات عن الديباجة الروتينية التي كانت تصبغها حول «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» فوصفت الهجمات الإسرائيلية بأنها «أعمال حربية» وشجبت الحصار الجوي الذي يعوق حركة المسافرين ويجبر هؤلاء على «المرور عبر سوريا».
    لم تبدأ المناورات الحقيقية لوقف إطلاق النار إلا في ٢٦ تموز، موعد التئام مؤتمر روما. ولكن خلال هذه الفترة الفاصلة، كانت تساؤلات كثيرة قد ظهرت عن الدور الذي تقوم به فرنسا لحل الأزمة وإنقاذ لبنان. وكان قد تأكّد لجميع المراقبين أن الرئيس الفرنسي شيراك لا يلقى أذناً صاغية من جورج بوش لوقف النار. وعقد مجلس الأمن الذي كانت ترأسه فرنسا اجتماعين لم يخرجا بأي نتيجة، أدركت باريس من خلالهما أن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على توقيت يراعي سير العمليات على الأرض.
    رغم مواقف باريس المتقدمة في دعم الحكومة اللبنانية والأكثرية التي تقف وراءها، فإن بعض الدبلوماسيين تملّكهم شعور بأنّ «ميزان النصح والشورى» قد بدأ يميل بقوة أكبر نحو واشنطن. ورغم العلاقات الخاصة جداً التي تربط شيراك بتيار في الأكثرية، إلا أنه بان في حينه أن فؤاد السنيورة يتطلع إلى واشنطن بعد أن فهم أن مفتاح الحل هو بين يديها. ويرى بعضهم أن انفتاح الأفق السياسي الجديد للسنيورة يعود إلى مؤتمر روما «حيث اكتسب ثوب رجل المسؤولية الأولى لإنقاذ لبنان» الذي لا يمكن الالتفاف حوله. وقد تحدثت الصحافة في وقتها بقوة وشددت على «نوع من التباين بين واشنطن وباريس».
    بادرت فرنسا إلى توزيع «لاورقة» في مجلس الأمن تحمل «مجموعة أفكار لحل الأزمة» ما سمح بإعطاء الوقت لإسرائيل لمحاولة «إنهاء المهمة»، وهو ما كان مطلوباً أميركياً. وبين حديث عن «تحسين الأفكار» الواردة في الورقة الفرنسية والمطالبة بـ«ممرات إنسانية»، ظهر واضحاً أن الولايات المتحدة كانت لديها خطة لن تتزحزح عن خطوط تنفيذها مهما كانت الضغوط والانتقادات، ومهما بلغ مستوى العنف والخراب الذي ينكب لبنان. وقد لوحظت زيادة حدة التوتر في العلاقات بين الإليزيه والبيت الأبيض وعدم إعلان حصول أي اتصال مباشر بين بوش وشيراكوفسّر بعض المراقبين في حينها تصريحات شيراك في لقاء طويل جداً مع صحيفة «اللوموند» بأنه من علامات ضعفه في هذه المرحلة. وهو وإن وضع مداخلته الصحافية ضمن تسلسل يعبّر عن موقف ثابت للديبلوماسية الفرنسية، غير أنه حمّل موقف فرنسا نقاطاً جديدة. وعلى سبيل المثال، فإنّه قدم المطالبة بوقف فوري للنار «لأنه لا حل عسكرياً لهذه الأزمة» واستطرد محاولاً التغطية على فشل دبلوماسيته وتبرير تأخر وقف النار بـ«ضرورة توافر مجموعة من الظروف»، مطالباً بأن تكون «شروط تكوين هذه الظروف سهلة»، أي إنه بدا كأنه يطالب «إسرائيل والولايات المتحدة» بالتخفيف من شروط القبول بوقف الحرب.
    وكانت أخبار «الجبهة» والتقارير التي وصلت قد أفهمت شيراك أن «الحرب الإسرائيلية ليست نزهة هذه المرة». انعكس هذا تغييراً في الموقف من حزب الله خلال لقائه الصحافي رفضاً أن يسمّيه منظمة إرهابية، مبرّراً ذلك بأن «المطلوب هو دفع حزب الله للانخراط في العمل السياسي».
    رغم أن «العمل المقاوم الوحيد» لواشنطن الذي حاول إبرازه جاك شيراك كان وضعه «فيتو» على مبدأ اللجوء لمنظمة الناتو، مبرراً ذلك بقوله إن كثيرين في هذه المنطقة يرون فيها «ذراعاً عسكرياً للغرب». إلا أنه منذ هذا التاريخ، ٢٥ تموز ٢٠٠٦، لجأ إلى تحديد طبيعة عمل القوة المتعددة الجنسيات مطالباً بـ«أن تعمل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة»، وذلك في إشارة إلى إمكان استعمالها القوة «للحفاظ على الأمن عبر الحدود بين إسرائيل ولبنان». واستطرد بأن أسّس لوجود قوات أجنبية أيضاً على الحدود بين سوريا ولبنان.
    قبل أيام ثلاثة من انتهاء شهر تموز، اجتمع مجلس الأمن للمرة الثالثة للنظر بوقف للنار في لبنان. فالتعنّت الأميركي بالنسبة للأوروبيين تجاوز حدود المقبول، وخصوصاً أن إسرائيل بدت عاجزة عن تحقيق أهداف حملتها العسكرية. وبدا واضحاً أن «صبر الأوروبيين قد فرغ». وفسرت مصادر في حينها «تحرّك طوني بلير» وزيارته السريعة إلى واشنطن من زاوية تدارك تباعد أوروبي أميركي. إذ إنه بعكس ما حصل إبان الأزمة العراقية لم يعد هناك انقسام بين الدول الأوروبية الكبرى، وشيراك هو الذي لحق بألمانيا وإيطاليا وإسبانيا إزاء ضرورة وقف «فوري للنار».
    وفي ظل هذه «الحماية الأوروبية»، بدت باريس مصمّمة على العمل انطلاقاً من النقاط التي حوتها «اللاورقة» وبدأت الضغط لتحويلها إلى «ورقة زرقاء» لتأخذ طريقها إلى التصويت على اعتبار أن الدول العربية، بما فيها السعودية ومصر، تؤيّدها.
    وانعكس موقف شيراك من حزب الله في بعض التعديلات التي أدخلت على «مشروع القرار» بحيث يمكن أن تصبح مقبولة من الطرف اللبناني المحارب، وأهم التعديلات اختفاء ما يشير إلى مراقبة الحدود مع سوريا والمطارات والمرافئ. وظهرت لأول مرة «دعوة الدول المانحة لمؤتمر خلال فترة قصيرة لدعم إعادة بناء لبنان ومؤسساته»، وهو ما أسّس لمؤتمر باريس ـــــ٣.
    مرة أخرى، نجح التعنّت الأميركي في منع شيراك من استرداد بعض مما فقده من وزن «في الشارع العربي» فهو بدا عاجزاً عن «حماية بلاد الأرز» وبدت تنازلاته لـ«الفريق اللبناني المحارب» كأنها تذهب بعكس توجهات واشنطن وحلفائهامع نهاية شهر تموز، بدت فرنسا وحيدة في ظل عجزها عن الحصول على وقف للنار في لبنان يسبق إرسال قوات دولية، وذلك على رغم وقوف كل من إسبانيا واليونان والسويد، بالإضافة إلى فنلندا، الرئيسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إلى جانبها. فقد وضعت ألمانيا ثقلها إلى جانب بريطانيا، لتمنع إصدار بيان يدعو لوقف إطاق النار، وبدت فرنسا كأنّها «تركب قطاراً لا تعرف وجهة سيره»، بالإشارة إلى انفتاحها على المشروع الأميركي الفضفاض الذي بدأ الحديث عنه والذي كما قال دبلوماسي في حينه «يقول كل شيء وعكسه».
    في ٣٠ تموز أيضاً حصلت مجزرة قانا. ويقول البعض إن فرنسا أحسنت استعمال الزخم الإعلامي الذي توافر عقب المجزرة والتردد الأميركي الذي رافقها لتحسين موقفها التفاوضي مع الولايات المتحدة بشأن الأزمة اللبنانية وطرق معالجتها. والواقع أن الدبلوماسية الفرنسية «تمترست» وراء الموقف اللبناني بعد أن أعلن السنيورة رفض التفاوض قبل وقف إطلاق النار وبعد أن بان ظاهراً فشل الحل العسكري بعد مرور ثلاثة أسابيع على بداية الحرب.
    ويصف مراقب المناورة الفرنسي التي سمحت لباريس بالعودة إلى واجهة المفاوضات، بأنها تمت على ثلاث مراحل متداخلة، أحسنت خلالها الدبلوماسية الفرنسية قراءة الوقائع ومرافقتها بخطوات ملموسة على مختلف الأصعدة.
    في المرحلة الأولى، ثبّتت فرنسا صورتها كداعمة «للمطالب الدولية» المتمثلة ببسط سلطة الحكومة اللبنانية على الجنوب، التي هي مطالب فرنسية منذ انسحاب إسرائيل عام ٢٠٠٠. وفي المرحلة الثانية، أي مباشرة بعد مجزرة قانا، أوفد شيراك دوست بلازي إلى بيروت واجتمع مع وزير خارجية إيران، ممّا أجبر الدول العربية «النافذة» على التحرّك ومواكبة الموقف الفرنسي علناً والابتعاد عن التصلّب الأميركيوخلال 24 ساعة، تطوّرت المرحلة الثالثة، وبان تصلّب باريس وتصميمها على الذهاب بعيداً في معارضة التوجّه الأميركي، وأعلنت بوضوح مقاطعتها لاجتماع لجنة الأمم المتحدة المكلفة دراسة تشكيل القوات الدولية. ونتيجة ذلك لان الموقف الأميركي، وسحبت كوندوليزا رايس مشروع قرار أميركي من التداول وعاد البحث يتركز على «تحسين اللاورقة الفرنسية».
    عاد الود بين الدبلوماسيين الفرنسيين والأميركيين. وبين حذر من «قدرة الولايات المتحدة على المناورة واستيعاب هذه الضربة الديبلوماسية» التي سبّبتها مجزرة قانا، والخوف من أن يؤدي إدخال «تحسينات» على مشروع القرار الفرنسي «المرفوض بشكله ـــــ الذي كان ـــــ إسرائيلياً» إلى إلغاء مضمونه «المقبول لبنانياً».
    وفي هذا السياق الحذر، بدأ الحديث عن «قرارين» لا قرار واحد. ولمّح إلى الأمر جون بولتون، ممثّل واشنطن في مجلس الأمن، حين قال: «علينا أن نرى كم يلزمنا من القرارات...». ولم تعترض باريس. إلا أنه بعد مرور خمسة أيام على المجزرة الإسرائيلية لم يصدر أي قرار وظلت المشاورات الفرنسية الأميركية في مجلس الأمن متوقفة عملياً. ويقول أحد الذين رافقوا هذه المرحلة «إن شيراك فهم لعبة الأميركيين». ورغم هذا دخل الفرنسيون «لعبة ماراتون المشاورات في مجلس الأمن ووقعوا في الفخ الأميركي» لأن إطالة المفاوضات كانت جل ما تبغيه واشنطن وتل أبيب لإعطاء الوقت اللازم للقوات الإسرائيلية لفرض أمر واقع على الأرض واحتلال شريط حدودي يشكل «حزاماً أمنياً» تنسحب منه إسرائيل لاحقاً إذا لاءمها القرار ووافقت على تشكيلة القوات الدولية، بعد أن عجزت عن تدمير حزب الله.
    حتى إن «بدعة مشروع القرارين» لم تقنع شيراك ولكنه لم يستطع رفض «هذا المخرج» بحيث ينص الأول على «وقف فوري للعنف» يسمح بحفظ ماء وجه فرنسا والدول العربية والدول التي بدأت تتململ من تلكؤ مجلس الأمن في أخذ مسؤوليته، ويعالج الثاني المفاوضات السياسية لقرار ثان يصدر بعد أيام. وفتح «قبول شيراك بهذه البدعة» في الخامس من آب باب الاتفاق على مشروع «قرار يطالب بوقف الأعمال الحربية» بين إسرائيل وحزب الله. إلا أن هذا لم يكفِ للتوصل لصدوره.
    دخلت الحرب أسبوعها الرابع والعاصمتان غارقتان في تمحيص مشروع القرار الذي اعتبره في حينه البعض «عملاً إنشائياً رائعاً تظهر في حبكة نسيجه أنامل الأميركيين، وفي رموز زينته مراضاة للفرنسيين من حيث القالب». إلا أن التسريبات عن شكل المشروع طرحت على المراقبين سؤالاً عن جدية التباين بين الموقفين الفرنسي والأميركي الذي تحدثت عنه الدبلوماسية الفرنسية من جهة، وأن بولتون لم يكذب البتة حين قال إن «المشروع هو مشروع أميركي» صرف جرى تعديل بنيته وصياغته وقُدم حسب تركيبة فرنسية من حيث تعاقبية التنفيذ.
    في الثامن من آب، خرجت «مبادرة لبنانية» بعد إلحاح فرنسي مكثف بإعلان الحكومة اللبنانية «موافقتها على إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب». واعتبر دوست بلازي هذه الخطوة «عاملاً سياسياً مهماً جداً»، وتعبّر عن «إرادة جميع الأطراف اللبنانية لتمكين الحكومة من بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية»، مضيفاً أنّه «مساهمة كبرى في الخروج من الأزمة».
    في اليوم الذي تلى قبول فرنسا تبنّي قرار أفرغته الولايات المتحدة من مضمونه وبات مرآة عكست المطالب الإسرائيلية، فوجئت باريس بردّة فعل لبنان والعالم العربي. وبات واضحاً أن السلطات الفرنسية اكتشفت أن التنازلات التي قدّمتها إلى الإدارة الأميركية لاستصدار القرار ١٧٠١ لم تأتِ بأي نتيجة، وخصوصاً في ضوء المتغيرات على الأرض، أي مقاومة حزب الله للآلة العسكرية الإسرائيلية بشكل غير منتظر، ممّا دفع الحكومة اللبنانية وبعض الحكومات العربية للاصطفاف وراء مطالب تجاوزت المطالب التي كانت ترى فرنسا أنها تخدم لبنان. بالتالي، اعترف الدبلوماسيون بأن هذا العوامل «عرّت الموقف الفرنسي الذي كان ينطلق من دوافع تصبّ في خدمة إنقاذ لبنان» دون الانتباه إلى تطور الوضع على الأرض.
    في ١٣ آب، صدر قرار «وقف الأعمال الحربية» تحت الرقم ١٧٠١. وبدا جاك شيراك مهتماً بـ«مسألة تشكيل القوات الدولية» لدعم اليونيفيل الموجودة في لبنان حسب القرار. وأراد الإيحاء بأن القيادة سوف تعود للإيطاليين بسبب عدد الجنود الذين وعدت بإرسالهم، إلا أن الواقع هو أن مسألة قيادة اليونفيل الجديدة كانت في لب المشاورات التي سبقت صدور القرار. ومع الوقت ظهر واضحاً أن معارضة قيادة فرنسا لليونفيل لم تكن من «وحي أميركي» كما حاولت بعض المصادر الترويج له لكسب تأييد «الشارع العربي» ومحو ما ترسّب لديه عن فشل باريس في مساعدة لبنان، على أساس أن كل ما تحاربه واشنطن محبّب لدى هذا الشارع الذي وقف وراء المقاومة اللبنانية. فالمعارضة كانت أساساً من بعض الأطراف اللبنانية والإقليمية التي رأت «الاستخدام الذي يريده شيراك من القرار ١٧٠١»، وبالتالي الاستخدام السياسي لنتائج الحرب في دعم حلفائه اللبنانيين.
    آخر غارة قامت بها القوات الإسرائيلية كانت في ١٥ آب في الساعة الخامسة بعد الظهر قبل أن تعلن التزاماً نسبياً ببنود القرار العتيد دون أن تتوقف عن خرقه بواسطة طائراتها الحربية. رغم ذلك، بقيت تنديدات شيراك، ومعه الدبلوماسية الفرنسية، في الإطار اللفظي حتى عندما توترت الأجواء بين الفرقة الفرنسية المشاركة في اليونيفيل وتوجيه الصواريخ المضادة للطائرات في حالات اقتربت فيها المقاتلات الاسرائيلية وشكلت خطراً عليها. ذلك أن شيراك ما إن أعلن اتفاق وقف الأعمال العدائية حتى التفت من جديد إلى الساحة اللبنانية الداخلية.
    فهو كان مقتنعاً منذ عام ٢٠٠٠ بأن نشر الجيش اللبناني في الجنوب يحيّد لبنان عن بقعة التوتر الشرق أوسطية. إلا أن نشر الجيش حصل في ظروف مقاومة لم تنهزم وفي ظروف جعلت الإقرار بعدم نزع سلاحها «جزءاً من القرار والمفاوضات التي سبقته». ومن هنا «التركيز السياسي» على الساحة الداخلية ومحاولة الوصول إلى ذلك عبر دعم تيار الحكومة المطالب بنزع سلاح حزب الله، عصب المقاومة الأقوى.
    مرت الحرب وكأنها لم تكن سياسياً وعادت استراتيجية شيراك لتتموضع في اتجاه المحكمة الدولية التي رأى فيها إمكان تحقيق هدفين: الأول هو إحقاق العدالة في ما يتعلق بعملية الاغتيال الوحشية لصديقه، وخصوصاً أن هناك إجماعاً على ذلك من مختلف الفرق اللبنانية. أما الهدف الثاني، فكان برأيه «تجاوز قصة المحكمة» بما يفتح آفاق العودة للحوار، وقد وضع إطاراً لتحركه هو «عدم التواصل مع سوريا».
    وترك شيراك الحكم والمحكمة الدولية باتت وراءه، إلا أنه لم يستطع إعادة وصل الحوار بين الفرقاء اللبنانيين. وتسلّم ساركوزي الملف على أساس ذلك، فإذا به يكتشف أن الملف اللبناني في «مرحلة ما بعد ـ بعد المحكمة».




    آثار يصعب محوها

    يمكن القول إن الرئيس جاك شيراك «لم يخبط على الطاولة» لوقف تدمير لبنان «كما كان قد يفعل ديغول أو حتى ميتران». ويزيد آخرون أن «وجود دوست بلازي على رأس الدبلوماسية الفرنسية لم يساعدها كثيراً». يوافق دبلوماسيون على أن 33 يوماً ولبنان تحت القنابل بينما تصرح وزيرة الخارجية الأميركية لتعلن أن هذه الحرب هي «ولادة شرق أوسط جديد» لم تخدم الدبلوماسية الفرنسية، وتركت أثراً سلبياً «يصعب محوه».
    لقد رفض شيراك تحديد المسؤول عن إشعال فتيل الحرب في جواب عن سؤال صحافي بعد يومين من بدء العدوان. وتكلم عن «الأزمتين» في إشارة إلى عملية خطف الجنود الإسرائيليين في موازاة الحرب على لبنان، واكتفى بجواب بشكل سؤال عام عن معنى المسؤولية «في أمور معقدة تاريخياً» ترمي المسؤولية على «جميع الأطراف».
    كان هذا الأمر في بداية «المعركة». لم يكن يدرك شيراك أن هذا الدمار الذي انتقده لن يتوقف إلا بعد شهر كامل: فهو كالكثيرين لم يكن يتصوّر أن تصمد المقاومة. كان ينتقد «عبث تدمير لبنان» ظناً منه أن القضية ستنتهي بعد عدد محدود من الأيام يتم خلالها سحق «المسلحين في الجنوب»، بما يؤمن إمكان نشر الجيش اللبناني على الحدود الدولية وبالتالي تحييد لبنان عن الصراع مع إسرائيل.
    وفي تحليل دقيق لعدم قدرة فرنسا أو سعيها الجدي لوقف الاعتداء، يمكن قراءة ما سعى دائماً جاك شيراك للوصول إليه، وهو «نشر الجيش على الخط الأزرق»، ما يشكل بالنسبة إليه «أفضل السبل لحماية لبنان» ولتكملة مشروع «لبنان الجديد» البعيد عن توترات المنطقة.
    ويذكّر البعض بالتسريبات التي ظهرت في مطلع عام ٢٠٠٣ عن استعداد فرنسا للطلب رسمياً من الحكومة اللبنانية نشر الجيش في الجنوب تطبيقاً لقرارت الأمم المتحدة بعد مرور ثلاث سنوات على انسحاب إسرائيل. ورغم تكذيب الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الفرنسية في حينه فرانسوا ريفاسو لهذه المعلومات، إلا أن معلومات أكيدة أفادت في حينه أن شيراك كان قد بدأ الاستعداد لفتح ملف «حماية لبنان من توترات المنطقة»، وهو ما قاد بعد ذلك إلى القرار الشهير ١٥٥٩ الذي يصبّ في هذا الاتجاه.