جان عزيز
لا يزال البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير يذكر ذاك الأحد الطويل في 12 حزيران 2005. قبله بشهر كامل، كان سيد الصرح قد استنفر إخوته الأساقفة الموارنة ليلتئموا في اجتماع استثنائي لمجلسهم في 11 أيار، وليعلنوا موقف بكركي الشهير: «لقد أعذر من أنذر». وفي الأيام الثلاثين الفاصلة بين الموعدين، قال صاحب الغبطة كل مراراته وخيباته والتطلعات: «لقد أعطانا الدستور 64 نائباً، ونحن نريد أن ننتخب 64 نائباً».
هذا القانون لن يعطي المسيحيين إلا 16 مقعداً. حتى بلغت مصارحته حدّها الأقصى أمام زوار الصالون الكبير: أنتم أدرى بما فعلوا، قولوا ذلك للناس، افضحوهم.
يومها هبّ المسيحيون إلى ساحات الصرح، فأرسلوا من يقول له: «نحنا مشينا دبّر حالك». سكت صاحب الغبطة 30 يوماً، وانتظر نتائج ذاك الأحد الطويل، يوم 12 حزيران، تاريخ انتخابات جبل لبنان. ولم يخذله أبناؤه، من جبيل وكسروان إلى المتنين. رفعوا أصواتهم، أسقطوها في الصناديق، وافتضحت الحقائق والأحجام. ومع ذلك قيل إن سيد الصرح ظل ينتظر. لبث مترقباً نتائج دائرة بعبدا ـــ عاليه. هناك كانت البطريركية في الامتحان. ومعها الميثاق والشراكة المسيحية والتوازن وجوهر لبنان. ولم يتأخر الآخرون في فهم حقيقة المواجهة. مع إقفال الصناديق وظهور اكتساح ميشال عون للاقتراع المسيحي، خرج وليد جنبلاط إلى الإعلام. هدد بالحرف: العودة إلى الحرب.
ومع ذلك قيل إن البطريرك لبث منتظراً. كان يدرك أن كل نضال بكركي طوال الأعوام الخمسة عشر الماضية، وكل نضال أبنائها والسياديين في لبنان، متوقف على تلك المعركة. إذا انتصر التحالف الرباعي، سقط التوازن، ودخل لبنان في جدلية أحلى خياريها كارثة، إما الدخول في ذمية سياسية لا قعر لها، وإما الرفض وتعريض الوحدة التي حققت السيادة، لمخاطر جديدة. مع مرور ساعات ذلك الليل، اتضحت الصورة أكثر، خسر المسيحيون شمال طريق الشام، وأمام من عبّد تلك الطريق للجحافل السورية طوال أعوام.
قيل إن البطريرك لم يستكن، ولم يسكت. أعدّ للردّ، للحد من الخسارة، وللعودة إلى سبق التوازن والشراكة، حفاظاً على كل الجماعات اللبنانية، وتحصيناً للاستقلال الفتي. كانت أحجية الاغتيالات المكتومة، وبالتوقيت المشبوه، قد بدأت وراحت تلقي بثقلها على مزاج الناس وعقولهم، وتهدد بالتعمية. في 2 حزيران سقط سمير قصير. لم يتردد صاحب الغبطة في فهم المغزى الخطير للرسالة الدموية. خرج معزياً بالقلم المذبوح، ومذكراً باغتيال نسيب المتني سنة 1958. كان المتني، مثل قصير، معارضاً لرئيس الجمهورية في حينه. وكان كمال جنبلاط، مثل وليد جنبلاط وحلفه الرباعي «المسدّس» استلحاقاً، يتوق إلى شرارة للثورة على كميل شمعون. اغتيل المتني، كما اغتيل سمير قصير، لتندلع الاتهامات الجاهزة وليطو الملف وتدفن الحقيقة.
لم ينثنِ سيد الصرح أمام التهويل، ذكّر بالحقبتين، وبالقلمين الشهيدين، وبالثورتين وبضياع الحق.
بعد الأحد 12 حزيران 2005 أدرك البطريرك أن المطلوب منه احتواء الضربة، تأمّل، فكّر، وخرج ليعلن أنه «بات لكل جماعة زعيمها». ليلقي على ميشال عون مهمة استكمال التوازن، بعدما تحققت السيادة.
عامان ونيف مرّا على تلك الأحداث، ليعود صاحب الغبطة، ومعه المسيحيون والسياديون والميثاقيون، إلى الانتظار. يوم الخميس الماضي لم ينتظر طويلاً. كان الحوار الهاتفي مساء الأربعاء قد حذّره من عبث المحاولة: إنهم يكذبون عليك يا سيدنا. تماماً كما فعلوا قبل عامين، وكما فعلوا مع ثوابت بكركي في 6 كانون الأول الماضي، وكما فعلوا مع ميثاق شرف الصرح في كانون الثاني الماضي، وكما فعلوا مع طرح اعتماد القضاء دائرة انتخابية.
كان المؤمن الملدوغ من الجحر مراراً يعرف ذلك، لكن حرصه على الوحدة كان أكبر. انتظر وهو يدرك عبث الانتظار. تماماً كما لاهوت تلميذ تيموتاوس الذي «آمن راجياً على غير رجاء».
بعدها قال كلمة الحدّ من الخسارة: «ليقم المتنيون بواجبهم بديموقراطية». وفي رسالته تلك كل الرسالة السياسية: ضرورة الإقبال على الاقتراع، بل تردد ولا إحجام، وضرورة عدم الخضوع للتهويل أو الترعيب. فلا الميليشياوية المنبوشة من القبور يجب أن تزرع عبودية الخوف. ولا المالية الموروثة من الضرائح يجب أن تبث عبودية الحاجة.
يوم غد الأحد، سينتظر سيد الصرح مجدداً. وقد لا ينتظر طويلاً هذه المرة. لكن جوهر انتظاره سيكون هو نفسه. من يملك القرار المسيحي؟ وأين تكمن مرجعية هذه الجماعة المؤسسة للكيان؟ هل هي لدى زعمائها الذين يسمعون صوت الراعي؟ أم تكون على طاولة قريطم وموائد «طويلي العمر»؟
غداً الأحد، سيتذكر صرح الديمان 12 حزيران 2005، وكثيرون سيتذكرون معه، وخصوصاً من أبناء المتن الشمالي المحشور في متن استحقاقات الآخرين.