strong>سوزان هاشم
  • سائق التاكسي كاتب ورسام يشكو بلداً لا يحضن مواهب أبنائه

  • سيارة الأجرة هي الجزء الأهم من عالم سائقها محمد خروبي، فيها يستوحي قصصاً ينسجها بأسلوبه السهل الممتنع، ورسوماً تشكيلية يلوّنها بألوانه الزيتية. وهذه القصص والرسوم جمعها في كتابين. خروبي من بلدة الصرفند الجنوبية يبلغ من العمر 53 عاماً، جلّ ما يتمناه هو «الاستمرار» مع قلمه وريشته

    يجلس محمد خروبي وراء «دركسيون» سيارته «التاكسي»، يبدأ عمله عند الثامنة صباحاً ويستمر حتى المساء، يجول على خط الصرفند ـــــ بيروت، شاكياً لركابه ما ألحقته به ظروف الحياة من ظلم، فلولاها لكان «في جعبته الآن» الكثير من الكتب والمعارض التي تحمل اسمه.
    فخروبي رجل متعلم، درس الأدب العربي في الجامعة اللبنانية، لكن الحرب الأهلية حرمته متابعة الدراسة والحصول على إجازة، فاضطر إلى السفر إلى السعودية حيث عمل هناك في إحدى شركات المقاولات، مديراً لشؤون الموظفينفي سنوات الغربة عرف خروبي كيف يبرز موهبته الأدبية، فقد أُتيحت له فرصة نشر أول كتاباته الشعرية في بعض الصحف الخليجية، وتمكّن من اكتساب بعض المفردات والتركيبات اللغوية الأجنبية، وهو يستخدمها حالياً في الحديث مع ركابه الأجانب. بيد أن الرياح لم تسر بحسب ما يشتهي خروبي إذ صُرف من عمله في الخليج إبّان الأزمة الإيرانية ـــــ السعودية... عاد أدراجه إلى الوطن ليعمل «شوفير تاكسي». كثيرةٌ هي الأسباب التي قادت الكاتب والرسام خروبي، إلى العمل سائق سيارة أجرة، بدلاً من تفرغه كلياً للكتابة والرسم. وتتركّز جميعها في إطار «الظروف المعيشية الصعبة في بلادنا» التي جعلته يتكئ على هذه المهنة، ويعتمد عليها مورد رزق أساسياً، وللحصول على ضمان صحي يغطي تكاليف مرض زوجته المصابة بداء السرطان.
    وثمة عائق أساسي منع خروبي من التفرّغ لإبداء موهبته، إذ «الكتابة والرسم في بلدنا ما بتطعمي خبز»، ويقول السائق الفنان: «لو كنت في الخارج لكانت رسومي وحدها تكفيني لأعيش حياة كريمة. ونعيش في ظلّ انحطاط ثقافي، فلم تعد القراءة تجد مكاناً لها بين الناس، إذ بات يجذبهم التلفاز والإنترنت وغيرها من وسائل الترفيه والتسلية لذلك لم يُباع من كتابي الأخير سوى 800 نسخة».
    يشكو خروبي من مشكلة نشر مؤلفاته، ويقول إن «غالبية دور النشر تعتمد على الواسطة لنشر المؤلفات، لا على قيمتها الأدبية، وبات أي مشروع ثقافي يحتاج إلى واسطة لإنجازه، وأول سؤال يطرحه عليك المسؤولون عن دور النشر هو عن انتمائك السياسي، فإذا لم تتوافق معهم في خيارهم السياسي فإنهم لا يرحبون بك»سيارة الأجرة ليست فقط وسيلة تدرّ مالاً أو مصدراً للقمة العيش، إنها وفق توصيف خروبي «عالم بحد ذاته»، يجد فيها لذة ومتعة، إذ تتيح له التعرف يومياً بعدد لا يحصى من الناس من مختلف المهن والفئات الاجتماعية، فيستوحي خروبي قصصه وكتاباته مما يروونه له.
    فضل هذه المهنة لا حد له بالنسبة إلى خروبي إذ يستفيد أيضاً منها لتسويق كتبه بين الركاب، ولا سّيما بين طلاب الجامعات الذين يبيعهم الكتب بنصف السعر، وذلك «بقصد تشجيعهم على القراءة». الذين اعتادوا التنقل في «التاكسي» بين الصرفند وبيروت، يحفظون خروبي جيداً، أما هو فيحلو له أن يقدم نفسه بطريقته الخاصة، يقول «أنا إنسان متعلم»، وعلى رغم أنه لم يُكمل دراسة الأدب العربي، إلاّ أن الحياة هي أفضل مدرسة بالنسبة إليه. وموهبته في الكتابة «هي نتيجة المطالعة المكثفة التي تشكل مخزون المعرفة». يقرأ خروبي كتباً من اختصاصات متنوعة، وهو يفضل الأدب الحديث على الكلاسيكي، ويتابع أهم إنتاجات الأدب العالمي، ويقول إنه معجب بمؤلفات الكاتب «دان براون» (مؤلف رواية «دافنتشي كود»).
    مطالعاته الكثيرة أثرت خياله، لكن خروبي يرفض أن يُقال إنه متأثر بأحد الكتّاب، إذ يعتبر أن قلمه متمايز من كتابات الآخرين. والقراءة بحسب تعبيره «تنمّي الخيال، وتساعد على حسن استخدام اللغة بشكل سليم».
    اكتشف خروبي حبه للكتابة وهو في سن الـ14 عاماً، حين نظم أول قصيدة شعر، ولم يصدق أستاذه حينها أنها من تأليفه، ما حثّه وشجعه «على تنمية هذه الموهبة».
    يميل خروبي حالياً إلى كتابة القصص القصيرة، وذلك بعدما هجر الشعر «تماشياً مع العصر»، وقد نشر حتى الآن كتابين «كشف المستور» الصادر عن دار ومكتبة الحياة عام 1998، و«سمفونية الدم» عن دار الفارابي، وهو في صدد إعداد كتاب جديد، لكن توقيت إصداره سيبقى رهن الظروف السياسية في البلاد.
    كتب خروبي عبارة عن مجموعة قصص صغيرة تقارب حوالى 40 قصة في كل الكتب. وهذه القصص مستوحاة من الواقع الذي نعيشه، ويضفي عليها خروبي مزيجاً من الفكاهة والسخرية اللاذعة، ويكتبها بأسلوب السهل الممتنع. ويكاد مضمون هذه القصص «يلامس كل جوانب الحياة»، فينتقد الفساد الاجتماعي والأخلاقي المتفشّي في المجتمع الحاضر، ويتكلم خروبي أيضاً «عن الحب الذي فقد معناه في أيامنا». ويستحضر الموت في الكثير من قصصه «فاستحضاره يهوّن علينا السير في هذه الحياة». ولا ينسى خروبي التكلم في صفحات كتبه عن التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم و«مدى تأثيره على عقول البشر». ولا تخلو كتاباته من الإشارات السياسية، فهو يعزف على سمفونية الدم الذي يسيل من وطنه. ويضع الإصبع على الجرح عندما يتحدث عن الواقع العربي المخزي، والتواطؤ مع الولايات المتحدة الأميركية التي تمارس إرهابها على العالمموهبة الرسم بالنسبة إلى خروبي، لا تنفصل عن الكتابة «فالرسم والكتابة يكملان بعضهما».
    وموهبة الرسم بدأت مع خروبي منذ صغره إذ كان يستهويه إكمال رسم العصافير على الرزنامة، وكان يشرد في ساعات الرياضيات في المدرسة عما يقوله الأستاذ لينفرد في عالم خاص يرسمه كما يشاء، وعندما كبر طوّر هذه الموهبة من خلال زياراته للمتاحف في العواصم الأوروبية ولا سيّما في روما وباريس. وراح يرسم لوحات زيتية، ورسوماً كاريكاتورية ووجوهاً. ولقد عُرضت لوحات خروبي ورسوماته في بلدته الصرفند، وفي حديقة الصنائع وفي معارض نظمتها جمعية إنماء لبنان.
    يحب خروبي أيضاً التصوير الفوتوغرافي، ويقضي بعض أوقات الفراغ برفقة الكاميرا. يبتسم وهو يتحدث عن ابنته فاطمة (22 عاماً) التي ورثت عنه موهبة الرسم، وهي «المتعلقة كما والدها بالريشة»، ولكن على طريقتها، إذ إنها تميل للرسوم المائية، وتدرس فاطمة حالياً الأدب الإنكليزي، أما ابنه حسين (19 عاماً) فانحرف عن طريق والده، حتى إنه لم يكمل تعليمه في المدرسة. ويأمل خروبي مستقبلاًً واعداً لابنه الأصغر يوسف (16 عاماً) المرفّع إلى الصف الأول الثانوي، إذ إنه متفوّق في صفه.




    أحارب كي أكسب أصدقاء

    يرى خروبي أن تمتين العلاقات مع الآخرين من أهم الأمور في الحياة، فهو «إنسان بسيط وغير متطلب»، ويؤكد «أحارب كي أكسب أصدقاء»، ويرى أن لا قيمة لذاته إذا كان وحيداً. لذلك تراه يسعى دائماً لفتح قنوات اتصال مع الآخرين.
    قد يُفاجئ خروبي محدّثه حين يكشف له أن «الأحزان رفيقة دربه»، إذ عاش طفولة قاسية، ونشأ في بيئة متواضعة لم تلبِّ طموحاته، وكان والده يؤنّبه عندما يراه يرسم، ويردد دائماً على مسامعه «روح إعمل شغلة تنفعك بدل هالخربشة».
    بيد أن خروبي استطاع أن يتحدى والده، ولكنه اليوم ليس أفضل حال من الأمس، فإصابة زوجته صفاء بداء السرطان «رمته من جديد في عالم الأحزان»، وهو ينتظر شفاءها لينهي كتابه الثالث الذي هو بصدد
    إعداده.