strong>كامل جابر
دويّ صاعق يضرب ساحة بلدة أنصار، يخنق همس القهقهات المتدثّرة بصمت الظلام وبقرار اتخذّه «أبو عديّ»، إبراهيم الزين عاصي، بالصمود. لم يفكّر في البحث عن مكان آمن يمكن إطلاق تسمية «ملجأ» عليه. أصرّ على البقاء في البيت المؤلف من طبقة واحدة والذي طالما افتخر به واستضاف في جنباته جملة من زملائه الشعراء، ومن الفنانين كذلك. كأنه اختار أن يسجّل ملحمة صموده وملحمة استشهاده مع ابنتيه وخالتهما.
لم يكن النعاس المجروح على مدى خمسة وعشرين يوماً من العدوان المستمر قد تغلّب بعد على من في البيت. في الخارج ثمة من كان يسمع أصواتاً ترتّل «حكايا» وكلمات تبدّد بعض القلق المتأتي من العدوان الذي بدأ على حي المشاع في أنصار ودمّر ما لا يقلّ عن ثلاثة منازل، مصيباً بعض من فيها بجروح مختلفة.
لكن الغارة الملقية بصواريخها المميتة بُعيد منتصف الليل بربع ساعة، من فجر السادس من آب، بدّدت الحياة في وسط الحي. في لحظة الجريمة تحوّل المنزل ومن تحت سقفه إلى أشلاء: الوالد الشاعر الخمسيني، الممتهن تعقيب المعاملات في مصلحة تسجيل السيارات، في النبطية أولاً ثم في بيروت، وقد عثر المنقذون على جثته خارج الدمار إذ كان يجلس على الشرفة. ابنته غنى إبراهيم عاصي (25عاماً) وشقيقتها مايا (21 عاماً) وخالتهما وفاء قبيسي (27 عاماً) توزعت أشلاؤهن على مساحة الدمار. وحبست قطعة من جدار طارت نحو شرفة منزل والد مروان علي عاصي، شرقي البيت المستهدف، جسمه تحتها، فخرّ مروان شهيداً في مكانه.
تتعاقب الغارات، فتمنع عملية رفع الأنقاض وانتشال الجثث حتى الساعة السادسة صباحاً، بعد آخر غارة نفّذتها الطائرات على منزل «أبو رائف» إبراهيم منصور المجاور، وقد خرج من تحت أنقاضه بجروح متوسطة، فيما نجت عائلته التي كانت قد انتقلت إلى بيروت.
وحكاية أبي رائف تشبه إلى حدّ ما حكاية الشهيد أبي عدي. يهمس شاب من الجوار: «هل تعلم أن صاحب البيت لحق بزوجته إلى السيارة قبل أيام من المجزرة ليقنعها بفكرة العدول عن النزوح نحو «الشمال؟ قال لها إن البيت بعيد عن استهداف العدو، ولنا أسوة بالجيران وأبناء الحيّ... لكنها تمسكت بقرارها وأخذت معها أربعة من أبنائهما، صبيين وابنتين، وعندهما ثالثة متزوجة. وآثرت صبيتان البقاء مع والدهما، وكذلك فعلت خالتهما تشجيعاً لهما».
تقول الزوجة ناهدة قبيسي: «الحرب بتخوّف كل العالم خصوصاً إذا كان العدو إسرائيل، فكيف إذا كان هناك أولاد صغار. بقينا حتى 29 تموز في أنصار. قبلها بثلاثة أيام اتفقت أنا وابراهيم على أن نخرج كلنا من البلدة، قال: جهزوا أغراضكم، ثم عدل وقال: طولوا بالكم، وبعدما حلق ذقنه حسم أمره: «ما عاد بدي فلّ».
ردّت عليه بالإشارة إلى ابنها الصغير هادي: «ليك هادي الزغير كيف خيفان». فأجابها: «أنت جبانة وعم تخوّفي الأولاد! يجب أن تكوني قوية مثلي أنا، يجب أن تصمدي». لكن الأولاد راحوا يبكون. كانوا خائفين ومحاصرين في البيت منذ بداية العدوان. تقول: «ابنتي داليا متزوجة وعندها ولدان، قالت: ماما، أنا خائفة وسوف أرحل غداً، قلت: وأنا كذلك، اتفقنا ولم نحك لابراهيم عن قرارنا. جهّزت ابنتي نفسها وخرجت إلى الشرفة لأقنعه بالرحيل، وعندما شعر بجدية قراري، غضب كثيراً وراح يردد: بدنا نروح نتشرشح ببيوت العالم؟ ما في شي بأنصار، بموت ببيتي ولا أخرج منهالصبيتان مايا القريبة بطباعها إلى طباع والدها، وغنى، ومعهما خالتهما قرّرن عدم المغادرة. قالت مايا لوالدتها: «مش مضطرين نروح لعند أحد!». مايا كانت تدرس أيام الحرب كثيراً، ولكثرة ما حملت الكتاب أصيبت بآلام في يدها. تقول الوالدة، «ربطت يدها بمشدّ. قلت لها: أقنعي والدك يا ماما لكي نغادر، لكنها أجابتني: «يا ماما بدّي موت شهيدة!» أجبتها: شو إنت بالمقاومة يا ماما؟». تتابع الوالدة: «أما شقيقتي وفاء فهي ملتصقة بنا منذ وفاة والديها، ولأن ابنتيّ من عمرها، كانت متعلقة بهما، قالت لإخوتي عندما دعوها إلى الرحيل: سأبقى عند أختي ناهدة، خرجتُ بدون أن أراها».
حاول إبراهيم كثيراً إقناع زوجته بالعدول عن فكرة النزوح، بل إنه هدّدها: «إذا خرجت اليوم فلن تعودي ثانية». طلبت الزوجة من ابن الجيران تأمين سيارة تاكسي، وتيسير الأمر سريعاً. فقال إبراهيم لسائق التاكسي: «بكرا بس تروق الحالة بدي اتشكّى عليك». آخر جملة سمعتها ناهدة من زوجها ذلك اليوم كانت طلبه من سائق السيارة: «نزّل مرتي وولادي!»، بعدها انطلقت السيارة «نظرت إلى الخلف، كان واقفاً كأنه يرمقنا النظرة الأخيرة».
وبعد أيام اتّصل ابراهيم بزوجته، قال لها عشية الغارة: «أنت مش معودة عالعزارة، ديري بالك على الأولاد، مشتاق ليكم». تقول: «حكي، سلّم، وكأنه اتصال الوداع».
يقول رشاد عاصي، نجل رئيس بلدية أنصار: «اتصلت به من بيروت قبل نصف ساعة من استشهاده، راح يمازحني قائلاً: هربت يا خوّيف؟ الله يرحمو. في عدوان نيسان عام 1996، نزح كثيرون من أبناء البلدة، وبقي صامداً، بل إنه غرس شجراً على جوانب الطرقات في البلدة».
جميل عاصي كان آخر من رأى إبراهيم «عند الثامنة والنصف بدأت السهرة في بيت إبراهيم الذي يُنسي من يزوره همومه لأنه صاحب نكتة. كنا 11 شخصاً بالبيت، هم أربعة ونحن سبعة. بدايةً غادر أبو نزيه والد مروان علي عاصي وصهره، ثم غادر أحمد واسماعيل عاصي ولم يبق على الشرفة غيري أنا وإبراهيم. صبّ لي فنجان شاي، لم أكمله وغادرت رغم أنه أصرّ عليّ أن أبقى لأنه «سهران حتى الصباح» قال لي. عندما وصلت إلى خارج البيت، التقيت بأحمد عاصي ورافقته إلى سطح بيت والده أبو نزيه. فجأة شعرت بأن كل ما حولنا صار نوراً ثم دخاناً، وأن شيئاً ما رمانا 4 أمتار إلى الوراء. نزلنا إلى الطبقة السفلى من البيت فوجدنا فجوات متعددة حدثت فيه. دمار وخراب. اعتقدت أن الصاروخ وقع في بيت أحمد، قلت له: الصاروخ عندكم يا أحمد، فصار ينادي على من يتذكر أنهم كانوا في البيت واحداً واحداً. ردّ الجميع إلا مروان، فاعتبره مفقوداً. التقينا بأبي نزيه ينير المصباح، فصرخنا معاً: أطفئ الضوء. خرج أحمد إلى الطريق وصرخ: الله أكبر. سحبته وخرجت لأعرف علامَ يكبّر، وإذا ببيت إبراهيم قد سوّي بالأرض».
جثة ابراهيم وجدت كاملة بعدما طارت من الشرفة إلى منزل عمه «أبو نزيه». أما الصبايا الثلاث، فقد تحوّلت جثثهن أشلاء بعدما سقط الصاروخ في غرفة التلفاز، حيث كن يسهرن. يتذكر جميل أن آخر ما تناهى إلى مسمعه من غرفتهن كان صوت أم كلثوم. «كنا لا ننفك عن الضحك جراء نكات أبي عدي، وفجأة تحول كل شيء إلى موت. بعد ساعتين وجدنا جثة مروان تحت الردم الذي طار من بيت إبراهيم. أما الصبايا فجمعنا أشلاءهن على مدى أكثر من أربع ساعات». أما مروان فكان قد ترك بيته في محلة «الزرائيل» شمال غرب أنصار، وانتقل مع عائلته إلى بيت والده في الساحة حيث تجمّع فيه نحو 40 شخصاً، غادروا واحداً تلو الآخر بمن فيهم زوجة مروان وأولاده، فيما آثر البقاء في أنصار.
دفع إبراهيم الزين عاصي، «الهمشري» كما يصفه أبناء بلدته أنصار، مثل العديد من أهلها، ومن أبناء الجنوب، ثمن قناعاتهم في التمسك بالأرض، ليسقط مثلهم شهيداً على مذبح رفض العدوان وانتزاع حق الناس في حياة آمنة وحرية خياراتهم.


عبد الناصر فياض

من بين بقايا المنزل والأشلاء صعد الطبيب اليساري عبد الناصر محمد فياض، ليدخل في العدسة، مسعفاً، منقذاً، ومساهماً فاعلاً في عملية إزالة الردم وانتشال جثث الشهداء. في وسط الضجيج، سأل عن فلان وعلان... لم يترك اسماً من معارفنا المشتركين، إلا واستفسر عن سلامته.
لم يعهد أبناء أنصار طبيبهم، أن إنسانيته ستقوده إلى حد الانفجار أمام هول الفاجعة والدمار، وهذا الغدر الحاقد الذي روّع بلدته، إلى فجر وقف النار. الهدوء تسرب شيئاً فشيئاً إلى البلدة المنكوبة كغيرها من قرى الجنوب بأهلها وبيوتها وطرقاتها، وتسرّب كذلك إلى دماغ الطبيب بعد انفجار ونزيف أدخلاه في غيبوبة لم تجد معها جراحات أو إسعاف.
بتواضع رحل ذاك الصاخب بالحياة بعد ان رسم صورته الأجمل طبيباً ومنقذاً.

حدث في 6 آب

أصاب صاروخان أطلقهما حزب الله تجمعاً لفصيل قيادي من القوات الاحتياطية للواء المظليين الاسرائيليين في كيبوتس كفار جلعادي ضم ما لا يقل عن ثلاثين فرداً، فسقط 12 ضابطاً وجندياً قتلى.
وكان الحزب أطلق واحدة من أشد صلياته الصاروخية على المستوطنات الشمالية والعمق الإسرائيلي ووصلت هذه الصواريخ إلى حيفا وعلى مقربة من الناصرة. وأتى ذلك بعدما سجل اليوم السابق (5 آب) رقماً قياسياً في القصف الجوي والمدفعي على لبنان، الذي اعتبر «الأعنف منذ بدء الهجوم الاسرائيلي على لبنان»، إضافة إلى محاولة الإنزال في صور.
سياسياً تحوّلت فرصة الاجتماع العربي في بيروت (الذي سيعقد في 7 آب) إلى مناسبة لزيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول سوري لبيروت منذ الانسحاب العسكري السوري من لبنان قبل نحو سنة وأربعة أشهر، حيث وصل الى بيروت وزير الخارجية السورية وليد المعلم.
من جهة ثانية أصدرت الأمم المتحدة موجزاً إعلامياً، أشارت فيه إلى أن عدد ضحايا العدوان من اللبنانيين بلغ 903 قتلى حسب ما أفادت به الحكومة اللبنانية، بينما بلغ عدد الجرحى 3293 جريحاً وعدد النازحين 913 ألفاً، توزع 700 ألف نازح منهم في أنحاء لبنان.
وأعلنت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي ان عدد قتلى الجيش الإسرائيلي بلغ 61 جندياً و317 جريحاً، وعدد القتلى المدنيين 49 والجرحى 1895، وذلك استناداً الى الإحصاءات الرسمية.