strong>تعرض هذه الدراسة للتغييرات التي طرأت على بنية القوة الإسرائيلية ونظرية استخدامها في الفترة التي سبقت الحرب. كما تدرس التصورات التي تولدت عن هذه التغييرات والتي تم تبنيها في الحرب، وتعرض للنتائج غير المرضية التي أثمرت استخدام القوة، مع مناقشة التصورات البديلة، على فرض وجودها، التي كانت بتصرف إسرائيل بعد خطف الجنديين في الثاني عشر من تموز
ثمّة ثلاثة مستويات من الضمور في بناء القوة. يكمن المستوى الأوّل من الضمور في التقدير السائد في العقد الأخير بأن معقولية اندلاع حرب مع الدول ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل (الدائرة الأولى)، هي معقولية متدنية، وأن جوهر التهديد الذي تواجهه إسرائيل ينبع من دول كإيران (الدائرة الثانية ـــــ الثالثة) والفلسطينيين (الدائرة الداخلية). وبناءً على ذلك، تم تحويل عملية تخصيص الموارد والتدريبات ونظرية استخدام القوة عن الدائرة الأولى إلى الثانية والى الداخلية. وفي هذا الإطار ألغي في الجيش عدد من الفرق، بينها فرقة نظامية، كما ألغيت خطط لشراء أسلحة معينة، واقتصر تدريب الاحتياط على خطط تتعلق بمواجهة تهديدات الدائرة الداخلية، ما أدى إلى أن تصطدم تشكيلاته، خلال الحرب، بعد ست سنوات بدون تدريب، بمواجهة ذات صلة بحرب في الدائرة الأولى.
أما المستوى الثاني من الضمور فيكمن في الاعتقاد بأنه، رغم ذلك، إذا اندلعت حرب في الدائرة الأولى، فستكون إسرائيل معنية فقط بمنع حصول تغيير لا بإحداث تغيير، وبالتالي يكفينا أن نصد العدو بواسطة نيران دقيقة عند الحدود، ما يعني تدني أهمية المناورة البرية في عمق انتشار العدو.
وهكذا كانت النظرية تعتبر أن شرطة الحدود وحيازة أسلحة دقيقة سيكونان كافيين، فيما قللت من أهمية الحاجة إلى طوابير مدرعات تتحرك باتجاه مدن العدو.
إن من يتحرك وفقاً للمفهوم القائم على النار المركزة في المعارك، يتخلى عملياً عن أخذ المبادرة من أجل فرض أهداف سياسية، إذ إن من المشكوك فيه أن تدفع حرب تقوم على عنصر النار فقط العدو إلى فقدان الاتزان والشعور بالضائقة والهزيمة وتالياً طلب وقف النار أو الاستسلام. أضف إلى ذلك أن عدم تطوير القدرات المناسبة نتيجة تراجع مفهوم نقل الحرب إلى عمق أراضي العدو، من شأنه، في حالات كثيرة، أن يمنع الحسم أيضاً في معارك هدفها منع التغيير، ومن شأنه، نتيجة لذلك، أن يوصل الحروب إلى نهايتها بدون نتائج واضحة، أو تسبّب إطالة الحروب أكثر مما كان معهوداً سابقاً، مع ما يترتب عليه من انعكاسات على الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين.
المستوى الثالث من الضمور في مفهوم إسرائيل لاستخدام القوة كان في التبني المتحمّس جداً للنظرية الأميركية المسماةEBO Effects based operations، أي «العمليات المرتكزة على المؤثرات». وهدف هذه النظرية هو شل قدرة العدو على العمل، وليس تدمير قواته، وذلك من خلال ضرب مقارّه واتصالاته وعناصر أساسية أخرى لديه.
وقد تبدى النموذج «الصافي» جداً لهذه العمليات في حملة «الصدمة والرعب»، (SHOCK and Awe)، التي بدأت في حرب الخليج الثانية. إلا أن الأميركيين استخدموا الـEBO لإعداد وتمهيد عمل القوات البرية، لا كبديل منها.
كذلك لم يتخلّ الأميركيون، رغم تبنّيهم للـEBO، عن قائمة تفصيلية موازية من النظريات التي سادت لأعوام خلت. حتى الكولونيل في سلاح الجو الأميركي، جوهان فاردن، مؤلف كتاب The enemy as a system، الذي ورد فيه لأول مرة مصطلح EBO، قال إن هناك ثلاثة شروط تسقف استخدام النظرية: أن يكون العدو مبنياً كمنظومة، وأن تكون لهذه المنظومة مفاصل محددة، وأن تكون منظومة العدو ومفاصله المحددة معروفة لدينا جيداً.
على خلفية ذلك، كان هناك من أخطأ وتوهم أن بالإمكان إدارة حرب من خلال احتكاك صغير وثمن ضئيل. وهكذا، مع شحنة من ثلاثة مستويات من الضمور، خرجت إسرائيل إلى حرب لبنان الثانية، التي كانت، خلافاً لكل التوقعات، حرباً في الدائرة الأولى.
أرادت إسرائيل أن تُحدث بواسطة هذه الحرب تغييراً في لبنان، علماً بأنها واجهت حرب عصابات ليس للعدو فيها منظومة ذات مفاصل محددة، ومعرفتنا بمنظومته وببنيته، محدودة جداً.

المفهوم الخاطئ لاستخدام القوة في الحرب

يقول كلاوزفيتش إن المهمة الثانية من حيث الأهمية، التي تقف أمام المستوى السياسي والعسكري في كل حرب، بعد تحديد الهدف السياسي، هي فهم الطبيعة الخاصة بهذه الحرب وبلورة طريقة إدارتها وفقاً لذلك، إذ ليس هناك معركتان متماثلتان. وبحسب كلاوزفيتش، السؤال الجوهري الذي يجب على القائد السياسي والقائد العسكري أن يطرحه على نفسه هو: ما هي أوجه اختلاف المعركة المقبلة عن سابقاتها. ومن زاوية مراتب الضمور الثلاث المذكورة أعلاه، يمكن القول إن إسرائيل فشلت في فهم طبيعة حرب لبنان الثانية، وبلورت تصورات محكوماً عليها بالفشل سلفاً.
فقد عملت إسرائيل في عملية «تغيير اتجاه» على ضوء تصورين انعكسا في أوامر العملية. التصور الأول كان إدارة المعركة ضد دولة لبنان بالنار، بغية دفعها إلى نزع سلاح حزب الله بدلاً منها. وفعلاً، في بداية الحرب، حمّلت إسرائيل الحكومة اللبنانية مسؤولية الخطف، وهاجمت أهدافاً مثل المطار والمصافي ومراكز الوقود في لبنان، إضافة إلى الجسور عند مداخل بيروت وفي داخلها وما شابه ذلك. ولكن سرعان ما اتضح الذي كان يجب على صانعي القرارات تقديره مسبقاً، وهو أن الحكومة اللبنانية، حتى لو تولّد لديها الحافز، لا تمتلك القدرة السياسية على مواجهة حزب الله وعرّابيه، إيران وسوريا. فالضغط على حكومة السنيورة كان من شأنه أن يسبّب تفكيكها والإضرار بالمصالح الإسرائيلية المتمثلة في تنمية براعم ديموقراطية ميالة للغرب في لبنان.
كان للسنيورة والحريري الابن وزملائهما السنّة مصلحة في إضعاف حزب الله، حتى قبل الحرب، بعد مقتل الحريري وانتفاضة الأرز. لكنهم توصلوا إلى حدود قوتهم السياسية، بل واضطروا إلى ضم ممثلين عن حزب الله إلى حكومتهم.
هذا التصور رفضه الأميركيون والأوروبيون، الذين عملوا على منع مواصلة الهجوم بشكل أوسع ضد البنى التحتية في لبنان، عدا عن أن استخدام القوة ضد دولة لبنان أضر بالتعاطف المسيحي والدرزي مع رغبة إسرائيل في نزع سلاح حزب الله. بل إن السعودية ومصر ودولاً سنية أخرى خرجت ضد حزب الله الشيعي في أعقاب عملية الأسر، ووصفته بأنه عنصر مسبّب لعدم الاستقرار، وتوافقت عملياً على أهداف العملية الإسرائيلية. إلا أن الإضرار بدولة لبنان أظهر الصراع على أنه صراع إسرائيلي عربي، فتراجعت الأطراف السنية عن مواقفها السابقة، على الأقل في العلن، وسرعان ما تخلت إسرائيل عن فكرة إدارة المعركة بالنار ضد دولة لبنان، وان لم تعلن ذلك.
التصور الثاني الذي تبنّته إسرائيل كان إدارة حرب قليلة الاحتكاك مع تعزيز النيران الدقيقة ضد حزب الله، استناداً إلى فكرة الصدمة والرعب وفكرة EBO. إلا أن تنظيم حرب عصابات، لا يملك بنية منظوماتية ذات مفاصل محددة، لم يكن يتلاءم مع هاتين الفكرتين. كما أن جمع معلومات عن هذه البنية أعقد بكثير مقارنة مع جمع المعلومات الاستخبارية عن شجرة القيادة لجيش نظامي. فلحزب الله بنية مسطحة نسبياً، موزعة ومكونة من شبكة قطاعات تعمل بشكل شبه استقلالي وبدون حاجة، عموماً، إلى تحريك قوات أو نقل تموين أو تذخير. ذلك أن المقاتلين والوسائل القتالية والتموين والتذخير، ينتشرون ويتوزعون مسبقاً على الأرض وفي المنازل أو في «المحميات الطبيعية»، إضافة إلى منظومات التحصينات المموهة في الأودية. عدا عن أن الحزب لا يملك مركز ثقل عملياتي يؤدي ضربه إلى انهيار باقي أعضائه، دونما حاجة إلى تدميره بشكل مفصل.
إن محاولة تطبيق فكرتي «الصدمة والرعب» والـEBO ضد تنظيم عصابات مثل حزب الله، شبيهة بمحاولة تكسير عظام كيان حي لافقري، واستخدام قوة لا صلة لها بالظروف والوقائع وطبيعة المعركة.
من ناحية نظرية، يفترض باستخدام الـEBO، الهادف أصلاً إلى شل قدرات العدو، أن يحرر الطرف المهاجم من الحاجة إلى العمل على صيد تفصيلي لقاذفات صواريخ معدودة وفردية. ولكن عملياً، ونظراً للطابع الموزع والاستقلالي للمنظومة النارية لحزب الله، تحولت هذه النظرية إلى مهمة مركزية وتفصيلية.
معلوم لدينا أن الاستخبارات والمنظومات النارية العسكرية في سلاحي الجو والمدفعية، فشلت طوال أعوام في اصطياد قواذف القسام في ضواحي بيت حانون، رغم أن المنطقة هناك ضيقة ومحصورة ومسطحة ومكشوفة. عشية حرب لبنان الثانية مثلاً سقط على النقب الغربي المئات من صورايخ القسام، ولم يفلح الجيش في إصابة غالبية قواذفها بواسطة النيران المضادة.
إذن، لم يكن هناك سبب للاعتقاد بأنه بواسطة معركة بالنار فقط ستتحقق نتائج أفضل قبالة المنظومة الصاروخية لحزب الله ذات المدى القصير والمتوسط والمنتشرة بعمق عشرات الكيلومترات في لبنان، في مناطق جبلية حرجية وأخرى مأهولة.
وقد فشلت فكرة المعركة بالنار، أيضاً، وفقاً لمعايير نظرية النجاح في تدمير العدوBattle Damage Assessment) (BDA، وكذلك معايير النجاح في استخدام النار من حيث الكلفة والفائدة. ذلك أن أكثر من 15 ألف طلعة جوية و150 ألف قذيفة مدفعية أطلقتها المدافع الإسرائيلية، أثمرت فقط تدمير عشرات الأهداف النوعية وحوالى 200ـــــ300 قتيل من عناصر حزب الله (لا يتضمن الرقم قتلى حزب الله في المعارك البرية).
ونظراً لطبيعة المعركة ضد تنظيم عصابات لا يتجمع بشكل عام ليصبح هدفاً سهلاً، فإن الأغلبية الساحقة لهجمات سلاح الجو والمدفعية لم تكن فعّالة. وهذه الصورة تقولبت وتبلورت في مرحلة مبكرة من المعركة. فبعد أسبوع أو أسبوعين، وبعد ثلاثة آلاف طلعة جوية، و30 ألف قذيفة، كان بالإمكان التوقف وإعادة النظر في التصورات. من غير الواضح معنى التمسك بتصورات لا تحمل أية نتائج أو ثمار.
إن فكرة إدارة المعركة بالنار فقط من دون عملية برية، لم تثبت نفسها بعد، ولم تسجل حتى الآن سوى نجاح واحد في كوسوفو، حيث عمل الأميركيون ضد دولة سيادية وضد جيشها، بينما عملت إسرائيل ضد تنظيم عصابات غير ظاهر المعالم، وذي مستوى حساسية متوسط أو أدنى في ما خص ضرب الدولة المضيفة
له.




الكاتب
رون طيرا
(باحث عسكري في شؤون سلاح الجو، شغل سابقاً منصباً رفيعاً في استخبارات سلاح الجو الإسرائيلي)

العنوان الأصلي
تكسير عظام اللافقريات




اجزاء ملف "بناء القوّة الإسرائيليّة والخلل في الأولويّات":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث