نادر فوز
ليس مجزرةً ما وقع في الغازية يومي 7 و8 آب 2006، بل سلسلة مجازر توزعت مختلف أحياء هذه البلدة التي كانت تحوّلت إلى ملجأ للنازحين اعتقاداً منهم أنها آمنة. أكثر من ثلاثين شخصاً سقطوا في الغازية منذ اليوم الرابع للعدوان... وكان أقسى ما تعرّضت له البلدة استهداف أهاليها في 8 آب خلال تشييعهم ضحايا اليوم السابق. ترتفع صور عدد من شهداء أبناء القرية في أحياء الغازية، فيما لم يبق من المنازل المستهدفة آنذاك إلا مواقف لسيارات أهالي الحيّ، أو ورش بناء خجولة أقيمت لترميم ما تضرّر أو لإعادة بناء ما تهدّم منذ الأيام الأولى للحرب

في 16 تموز، شنّت الطائرات الإسرائيلية غارات عديدة على بلدة الغازية واستهدفت الجسور التي تصل البلدة بأوتوستراد الجنوب، ودمّرت «سنتر صالح»، أحد الأبنية التجارية عند مدخل البلدة. وأدّت هذه الغارات إلى استشهاد كلّ من حسن جميل صالح وزهير البابا وعاملة سيريلانكية جرّاء سقوط أحد الجسور عليهم، وأصيب شخصان آخران بشظايا الصواريخ الإسرائيلية.
بعد ذلك بقيت الغازية في الأسابيع اللاحقة هادئة، حتى إنها أصبحت ملجأً لعدد كبير من أهالي الجنوب، وكان معظم الأهالي يستبعدون أي اعتداء إسرائيلي مباشر على قريتهم «لقربها من صيدا، والدلالة السياسية لهذه المدينة». لكن القرب الجغرافي من «بوابة الجنوب» لم يقف عائقاً أمام المقاتلات الإسرائيلية التي أغارت على الغازية يومي السابع والثامن من آب، وعلى دفعات.
في مجزرة الغازية الأولى، أي في اليوم السابع من آب، استشهد 15 مواطناً مدنياً. فعند الساعة السابعة والنصف صباحاً، حلّقت الطائرات الإسرائيلية بشكل مكثّف فوق الغازية، واستهدفت أحد المنازل في حيّ «الزنبيل» (شمالي القرية)، ما أدى إلى استشهاد الشاب علي محمد ليلا (الغازية)، وثلاث نساء فلسطينيات سهام زبد ووفاء الشاعر وفادية زبد، إضافةً إلى الطفل هادي حسين جعفر (ثلاث سنوات). وفي غارة ثانية على ساحة العين، وسط البلدة، استهدفت المقاتلات الإسرائيلية منزل محمد أحمد كاعين، فاستشهد كل من أحمد مصطفى غدّار وحسين جوني، وانتشل صاحب المنزل أشلاء متناثرة بين الركام.
أما الغارة الثالثة، فكانت الأشدّ قسوة، واستهدفت مبنى من ثلاث طبقات لعائلة بدران سقط بكامله قاضياً على من بداخله من أطفال ونساء، وكانت «الحصيلة» سقوط ثمانية شهداء من آل بدران هم الحاجة رقية عبد ناصر زوجة الحاج حسن بدران، وابنتاها زينب وليلى، وابنة الأخيرة مريم حلّال، والأطفال حنين ومنال وعلي وحسن أحمد بدرانلم تنم الغازية ليلتها، وانتظر أهلها صباح نهار جديد لم يكن أقلّ قسوة. فبعد ظهر الثلاثاء 8 آب توجّهت مواكب التشييع إلى مدافن البلدة وسط أجواء الغضب والحزن، والحذر الذي بقي مخيّماً في ظلّ تحليق كثيف للمقاتلات الإسرائيلية التي لم تتأخر كثيراً قبل أن تبدأ بإلقاء صواريخها. فسقطت صواريخ الغارة الأولى على منزل الحاج أبو ناصر فرحات في حيّ «الزنبيل»، الذي قُصف سابقاً. ثم استُهدف منزل غازي خليفة حيث كان يتجمّع عدد كبير من الأهالي. والغارة الأبشع استهدفت منزل الحاج محمد أحمد خليفة (كاظم) في حيّ «البشرون» عند الطرف الغربي للغازية، حيث كانت عائلة الحاج كاظم وعدد من اللاجئين من صور يحتمون فسقطوا جيمعاً شهداء. وأسفرت هذه الغارات عن سقوط أحد عشر شهيداً جديداً هم: عائلة الحاج كاظم التي تتألف من الحاج وزوجته ابتسام وأولادهما الثلاثة حسين (9 سنوات)، فاطمة (6 سنوات) وأحمد (سنتان)، إضافةً إلى والد ووالدة الشهيدة ابتسام (من قرية عيناتا الجنوبية) محمود دعبول وعبدة نصر الله.
وبعد دقائق قليلة عادت الطائرات الإسرائيلية وأطلقت صواريخ عديدة على منازل الإخوة علي وأحمد ورضا خليفة، حيث استشهد أحمد وزوجته ابتسام، فيما نجت ابنتهما نهى بأعجوبة بعدما سقط المنزل على رؤوسهم. واستشهد في هذه الغارة أيضاً علي معتوق وندى الزين اللاجئان من صور.
«اتصلت بنهى ورفضت التحدث، لكن قالت إنّه بإمكاني الحديث نيابة عنها»، قالت ريم كاعين إحدى صديقات نهى خليفة الناجية من مجزرتي الغازية، وروت لنا بعض التفاصيل عن اللحظات الأخيرة في حياة عائلة أحمد خليفة. فذكرت أن الوالد شارك في تشييع الشهداء ثم عاد إلى منزله وجلس في المطبخ منتظراً أن تنتهي ابنته من إعداد «الفتّوش». لاحظت نهى أنه ينقصها الحامض، فطلبت من والدها شراءه، فخرج إلى الشرفة للتأكّد من أن محل الخضر غير مقفل، ثم عاد إلى المطبخ وسقطت الصواريخ.
كان طلب نهى لينقذ والدها من الموت لو أنه خرج مباشرة من المنزل لشراء الحامض، لكن الصواريخ الاسرائيلية كانت أسرع منه فقتلته وزوجته ابتسام التي لم تجمع كل أشلائها بعد.
نهى، كما قالت ريم، كانت تحت خزائن المطبخ التي أنقذتها من الموت فسقطت فوقها وحمتها من أعمدة البناء.
أصيبت نهى في الأيام الأولى للمجزرة بانهيار عصبي، وخصوصاً أنها واجهت أقسى ما يمكن لإنسان تحمّله، إذ سمعت الأنفاس الأخيرة لأبيها. بيد أنها تجاوزت المحنة، بحسب ريم، على اعتبار أنها اليوم «المسؤولة الوحيدة عن نفسها، وعليها متابعة حياتها كالسابق كما لو أنّ أهلها موجودون».
تتهيّأ نهى اليوم لتتخرّج من كلية الإعلام والتوثيق في الفرع الأول لكليّة الإعلام و«هي مصرّة على النجاح إرضاءً لوالديها وتماشياً مع ما ربّاها عليه»، ومن شارع مار الياس، في منزل جدّها، تقوم بإعداد مشروع تخرّجها في اختصاص العلاقات العامة والإعلان.




حدث في 7 آب

بعد ساعات قليلة على انفضاض الاجتماع الوزاري العربي الطارئ في بيروت، ارتكبت اسرائيل سلسلة مجازر في مناطق مختلفة من لبنان: الشياح، بريتال، الغازية، الغسانية، كفرتبنيت، حاروف، صور. وأعلن وزير الصحة محمد خليفة أن عدد الشهداء بلغ 954 ثلثهم من الأطفال. وكان الاجتماع الوزاري استهلّ بأخبار عن وقوع مجزرة في بلدة حولا أبكت رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة خلال المؤتمر، وتبيّن لاحقاً أن غالبية الأهالي نجت من القصف. وجاءت هذه المجازر مع استمرار المقاومة في تصدّيها للعدو الإسرائيلي على مختلف المحاور واعتراف الاسرائيليين بمقتل ثلاثة جنود. كما تزامنت مع بدء العدّ العكسي للتوصّل إلى قرار لوقف إطلاق النار إذ كان مجلس الأمن في نيويورك على موعد مع الوفد العربي الذي شكله الاجتماع الوزاري للقيام بمشاورات تأخذ بالتعديلات اللبنانية المقترحة على مسوّدة المشروع الأميركي الفرنسي، بعدما تبنّاها الاجتماع العربي في بيروت.
وفي خطاب مسجل ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أمام مؤتمر اتحاد الطوائف اليهودية في أميركا الشمالية، قال إن الحرب لا تدور فقط ضد حزب الله وإنما ضد إيران وسوريا «اللتين تريدان تدميرنا». وشدد على «أننا سننتصر في هذه الحرب، ولكن لن يكون انتصاراً سهلاً، سوف ندفع ثمناً باهظاً. ولكننا نفضّل دفع الثمن هذا الآن وليس الانتظار عامين آخرين أو ثلاثة أو أربعة أعوام، وبعدها نواجه أسلحة أشدّ تدميراً يمكن أن تطلق على السكان الإسرائيليين».