استراحة قصيرة لتناول طعام الغداء، بعد ساعات من العمل، كانت كفيلة بالقضاء على أكثر من أربعين شخصاً، من أصل ستين على مقربة من الحدود اللبنانية السورية لجهة بلدة القاع. هم عمال موسميون، كانوا يعملون ذلك النهار على تعبئة ثمار الدراق في الشاحنات العائدة لمشروع ناصر الج كامل جابر
لا يغيب عن بال الممرضة في مستشفى حكمت الأمين في النبطية إيماءة الرعب التي تملكت الطفلة آية تامر ياسين (سنتان ونصف السنة) حينما أتى بها المسعفون صبيحة السابع من آب 2006، ناجية من غارة كفرتبنيت التي أوقعت ثلاثة شهداء، هم شقيقها حسين الذي تطلق عليه العائلة كنية «أبو علي» (9 سنوات) وجدتاها لأمها وأبيها. أما فاطمة التي لم تتجاوز العشر سنوات من العمر فهي لم تتوقف، في حينه، عن البكاء وسؤال المسعفين والممرضات عن شقيقها حسين، كأنها كانت متيقنة أن الغارة التي استهدفت منزلهم ذلك الصباح حصدته، تماماً مثلما حصدت جدتيها.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يستهدف فيها العدوان بيوت آل ياسين في كفرتبنيت «فنحن في كل عرس لنا قرص» يقول قريب العائلة حسين علي ياسين. يضيف: «أن نرحل عن البلدة هذا غير ممكن، لكننا نزحنا من بيوتنا لأنها مستهدفة، واعتقدنا أن آخر بيت قد يكون مستهدفاً هو بيت عمي في ساحة البلدة».
ففي التاسع والعشرين من تموز 2006 انتقلت عائلة تامر ياسين، ومعه والدته، من حيّ المرج إلى بيت العائلة في ساحة كفرتبنيت. وانتقلت معه عائلة ابن عمه حسين علي ياسين التي كانت قد تركت بيتها قرب الشارع الرئيسي منذ بداية العدوان وأقامت في بيت تامر. هكذا صار في البيت الكائن في حي المرج أكثر من عشرين فرداً.
عند الساعة الرابعة والربع فجراً، أغار الطيران على الجوار، فاستيقظ الجميع. يقول حسين: «خرجت من البيت ظناً مني أن الغارة استهدفت بيتنا قرب الطريق العام، فوجدت أنها استهدفت بيت عمي عبد الحليم ياسين، عدت وأخبرت العائلة بالأمر. منهم من بقي صاحياً ومنهم من عاد إلى النوم».
قرابة الساعة السادسة صباحاً، قرّر حسين الخروج من البيت، ولحق به ابنه علي، الذي كان نائماً في بيت مجاور، للاهتمام بالمهرة، «لم أكد أبتعد 300 متر، حتى أغارت الطائرات على البيت الذي كان ابني فيه فمحته عن بكرة أبيه، ثم استهدف صاروخ بيت العائلة، فسقطت الشرفة على الغرفة التي تؤوي الجميع. هرعت وخلفي ابني بسرعة فائقة، ليتبدّد الدخان على شهداء وجرحى. باشرنا فوراً عملية الإنقاذ، ولم تمر دقائق حتى أحاط المئات من أبناء البلدة بالبيت للمشاركة في الإنقاذ ووصلت عشرات سيارات الإسعاف. سحبت الطفل أبو علي، فوجدته ميتاً. رفعت والدتي الحاجة محمودي الأخرس على الحمالة، رفعت لي بيدها، لوحت بها تودعني، وأسلمت الروح».
بدأت عملية إخلاء الضحايا والجرحى إلى مستشفى حكمت الأمين والمســـــــــتـــــــشفى الحكومي. كان بكاء فاطـــــــــمة على شقيقها حسين مرّاً، لتعلقها الشديد بـــــه. هي تتذكر جيداً تفاصيل الليلــــــة التي سبقت الغارة. «ذهب حسين إلى الجامع رغم صغر سنه، ومن هناك عرّج عــــــلى الفرن وأحضر لنا لحم بعجين، دخل وهو يأكــــــــــل منـــــــقـــــــوشة. وعندما غادر والدي تامر، قلق علـــــــــيــــــــه كثيراً، بسبب عواء الكلب فــــــــي الخارج، فقــــــــد كان خائفاً من أن يعضّه».
بعد الغارة الصباحية الأولى، لم يجد النوم طريقاً إلى عيني فاطمة، بقيت في فراشها وراحت تلعب «Game» مع ابنة عمها كوثر. «بعد الغارة الأولى نام حسين، وفجأة سقط الردم علينا وتحوّل كل شيء إلى فوضى. قمت من مكاني ووضعت غطاءً على والدتي، ورفعت حديد الشباك عن شقيقتي آية التي بدأت تبكي. ركضت إلى الجيران أبحث عن والدي وأناديه، حملني المسعفون إلى سيارة إسعاف ونقلوني إلى المستشفى».
كلّ أسئلة فاطمة للممرضات والمسعفين عن شقيقها حسين، كانت إجابتها واحدة، إنه مصاب وحالته خطرة. «بعد خمسة أيام، في أحد مستشفيات صيدا رأيت والدي يبكي، سألته: بابا، صار شي لأبو علي؟ خالتي ليلى كانت تزورني، أخذتني إلى غرفة مجاورة، حكت لي قصة وأخبرتني عن أبو علي، ساعتها غميت من البكي وما عاد فيي، دائماً أتذكره وافتقده».
يتذكر الجميع الطفل حسين: «كان سابقاً عمره بكثير، لازمني طوال فترة الحرب، كان مثل الدولاب، يركض من بيت إلى بيت ليؤدي خدمات للعائلة؛ قال لي: أريد أن أصلي للمجاهدين حتى يرد الله عن بابا» يقول خاله حسين.
لا تزال بتول تشعر بأن صوت حسين في أذنها، «كنا نلعب عن الحرب، كان هو باستمرار في المقاومة». صار عمر بتول 11 عاماً. وظلت آية التي صار عمرها اليوم ثلاث سنوات ونصف السنة تروي حكاية غارة الطيران على بيت جدها، «لم تنس شيئاً، واعية لكل التفاصيل» تقول والدتها التي رزقت طفلاً منذ شهر وسمّته محمداً.
رقية حسن ياسين زوجة حسين أصيبت بجروح بالغة. «بعد عام على الإصابة سألني طبيبها المسعف إن كانت لا تزال حية، إنها اليوم على الكرسي. أخذتها إلى السعودية للعلاج، في مستشفى سلمان الفقيه، وبقيت هناك ثلاثة أشهر ونصف الشهر، وخضعت منذ أسبوعين لآخر عملية جراحية، أعالجها حالياً على نفقة الجيش اللبناني، فضلاً عن العلاج الفيزيائي».
قدمت عائلة ياسين في كفرتبنيت ثمانية شهداء قبل عدوان تموز، خمسة منهم أولاد عم، وثلاثة أخوة كان الفارق الزمني بين استشهاد كل ّمنهم 40 يوماً.
لم تترك جدتا حسين، وهما سلفتان، بعضهما يوماً. لم تخرج أي منهما بزيارة من دون الأخرى، لذلك بقيتا في بيت واحد وغرفة واحدة، وعلى فرشتين متلاصقتين في العدوان، واستشهدتا معاً. كانت الحاجة محمودي قد اشترت غطاءً يستخدم على النعش، سألتها سلفتها الحاجة زينب: لماذا لم تشتري لي واحداً؟ فأجابتها: من تمت قبل الثانية تستخدمه ويعود للثانية. فسألتها الحاجة زينب: ماذا إذا متنا معاً؟




ضحايا المجزرة

الحاجة محمودي الأخرس (72 عاماً)، الحاجة زينب حمامص (70 عاماً)، وحفيدهما الطفل حسين تامر ياسين.
أما الجرحى فهم: زينب ياسين زوجة تامر وابنتاهما فاطمة (10 أعوام) وآية (سنتان ونصف السنة). رقية حسن ياسين (43 عاماً)، علي حسين ياسين (20 عاماً)، كوثر حسن ياسين (12 عاماً) بتول حسن ياسين (11 سنة) غفران حسن ياسين (8 سنوات)، ضحى حسن ياسين (5 أشهر) ووالدتهم ليلى عبد الأمير ياسين (32 عاماً).




كامل جابر

عمر «حنين» من عمر العدوان

بخطى متعثرة تزيّن شهرها الحادي عشر. تبعث حنين فادي مركيز أجمل «ضجيج» حياة في بيت والديها، مخففة على والدتها إلهام فرحات آلام الجراح المختلفة ونحو 12 عملية أعقبت إصابتها البالغة في الثالث من آب 2006 في كفررمان. ذلك اليوم حين سقط صاروخ أمام الباحة الجنوبية للبيت فأتى على واجهة الطبقتين اللتين يقطنهما الشقيقان الجنديان في الجيش اللبناني ياسر وفادي مركيز، النازحان أصلاً من منطقة العرقوب.
خيار واحد أعلنته إلهام فرحات لحظة إحساسها بالإصابة البالغة: «أنقذوا الجنين واتركوني أنا» بعدما شعرت بأن إحدى الشظايا وصلت نحو مولودها المنتظر وقبل إدراكها من الصور الشعاعية أن الشظية استقرت على بعد ثلاثة سنتيمترات من الرأس، فكانت الولادة بعملية قيصرية.
الكرسي المتحرك هو وسيلة تنقل الوالدة في البيت الذي تغيب عنه مظاهر العدوان بعد إصلاحه، فيما لا تغيب آثار الجراح التي أتت مختلفة على الشقيقين والزوجتين والأولاد. تسكّن إلهام بعض آلامها باحتضان مولودتها السادسة التي أتت إلى الحياة «في أقسى الظروف، لتبعث فيّ الروح من جديد». ذلك اليوم كانا بين الموت والحياة «بين قدم يسرى معلقة ببعض جلد، ويمنى مثخنة بالجراح ومكسورة عند الركبة، وشظايا أصاب بعضها البطن، كان خياري واضحاً، أنقذوا الجنين واتركوني لحالي. وقفت إلى جانبي الطبيبة النسائية ليلى نور الدين، وأجرت عملية ولادة قيصرية للطفلة بعدما أبلغتها أنني أنهي شهري التاسع بعد أربعة أيام، ثم بدأت رحلتي مع العذاب والعمليات الجراحية المتلاحقة من الإصابات، حتى بلغت 12 عملية». وما يحزّ في نفس إلهام أنها لم تتمكن من إرضاع مولودتها، بسبب العقاقير المختلفة التي لا تزال تتناولها حتى اليوم، «وإن كنت أرى الحياة من خلال ابنتي التي تربت نحو أربعة أشهر بعيدة عني بسبب إصابتي».