strong>تعرض هذه الدراسة للتغييرات التي طرأت على بنية القوة الإسرائيلية ونظرية استخدامها في الفترة التي سبقت الحرب. كما تدرس التصورات التي تولدت عن هذه التغييرات والتي تم تبنيها في الحرب، وتعرض للنتائج غير المرضية التي أثمرت استخدام القوة، مع مناقشة التصورات البديلة، على فرض وجودها، التي كانت بتصرف إسرائيل بعد خطف الجنديين في الثاني عشر من تموز
كنّا نعرف، أو كان يجب أن نعرف، أن قتل المئات من أفراد حزب الله، وضرب جزء من مستودعات هذا التنظيم ومراكزه، يشكلان رافعة سياسية ذات أثر محدود على صناع القرارات في كل من دمشق وطهران. ونحن لغاية الآن لم نرَ أن الحرب أثمرت تغييراً أساسياً في مواقف واستراتيجيات دمشق وطهران تجاه حزب الله ولبنان.
في مقابل ذلك، عمل الأميركيون في كوسوفو من دون أن يتلقوا ضربات، بينما قام حزب الله بقصف المستوطنات الشمالية الإسرائيلية، وجعل الضربات متبادلة، محوّلاً إسرائيل إلى الأكثر تحسّساً من استمرار القتال.
يصعب المقارنة بين الظروف الدبلوماسية والحساسية المنخفضة تجاه عنصر الوقت في حالة كوسوفو ونظيرتها في الحالة الإسرائيلية، ذلك أن الولايات المتحدة استخدمت القوة على مدار 80 يوماً، إلى أن تولد مفعول تراكمي أوصل إلى النقطة الحرجة المطلوبة للحسم.
في وقت متأخر جداً من الحرب، استخدمت القوات البرية. إلا أن استخدامها انطوى على تردد وتقلبات في الرأي، ومن دون تصور متبلور على وجه خاص. استخدام القوات البرية كان أشبه بحل وسطي، بين الموقف الداعي إلى عدم استخدامها بشكل عام، والموقف المتحمس لاستخدامها بشكل مكثف. ما حصل عملياً إذن هو استخدام «بعض» القوة البرية، الأمر الذي أدى إلى تعريض صفوف الجيش للإصابات، فضلاً عن أنه لم يُفضِ أصلاً إلى تحقيق نتائج عسكرية، أياً كانت هذه النتائج.
وهكذا، لم يكن واضحاً أية نتيجة عسكرية توخاها صناع القرار من وراء استخدام قوات بحجم كتائب في بنت جبيل أو في مارون الراس، أو من وراء استخدام قوات لوائية بعمق 2 إلى 3 كلم من الحدود بهدف تدمير مواقع هجرها حزب الله، ولا حتى من وراء استخدام قوات بحجم فرق على عمق 10 إلى 15 كلم، وعلى عرض جزء من الجبهة فقط. هذه العمليات لم تكن تكفي لإبعاد الصواريخ القصيرة المدى، فضلاً عن توليد أثر سياسي جدي.
استخدم حزب الله في جنوب لبنان مئات المقاتلين فقط. لذا، لم يكن قادراً على الصمود بجهد مستمر لأيام طويلة في عدة بؤر، وإن بسبب عدم قدرة مجموعة (محدودة) من المقاتلين على خوض مواجهة على جبهة واسعة. إلا أنّ الجيش لعب لمصلحة حزب الله من خلال طريقة استخدامه للقوات البرية التي تمت بالتدريج وتخللتها توقفات، الأمر الذي مكَّن الحزب من الاستراحة وتركيز القوات والمبادرة والمباغتة. بشكل عام، يمكن القول إن استخدام القوات البرية كان مبتذلاً ومتوقعاً.
قد يكون حزب الله فوجئ بالذريعة التي اتخذتها إسرائيل للخروج إلى الحرب، إلا أنه توقع مكان استخدام إسرائيل لقوتها وطريقته بعد البدء باستخدامها، باستثناء حركة الكماشة التي سعى الجيش إلى تنفيذها عشية انتهاء القتال، والتي كانت رمزية أكثر مما كانت مفيدة عسكرياً.
دأب عناصر حزب الله على جعل قواتنا تمر من أمامهم، فيما هم مختبئون في «المحميات الطبيعية» والأماكن الأخرى ليعمدوا بعد ذلك إلى مواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل وتنفيذ عمليات عصابات ضد الصفوف الخلفية من قواتنا. لذا، وجب أن تكون أي حركة للقوات نحو العمق اللبناني مصحوبة بتطهير جذري لكلّ المناطق المبنية والمفتوحة التي تمت السيطرة عليها. وثمة شك كبير في أن حجم القوات التي جنّدت كان كافياً لهذه المهمة، في الوقت الذي كان ينبغي إبقاء عديد احتياطي جانباً تحسباً لاحتمال حصول تدهور على جبهات أخرى.
الاستخدام المحير جداً للقوات البرية كان في الساعات الستين الأخيرة للقتال. فقد زُجت أرتال هذه القوات في العمق اللبناني في وقت كانت فيه المعركة السياسية (قرار مجلس الأمن) قد انتهت. أي إن قرار الزج بها لم يكن من أجل تحقيق أهداف سياسية. لقد أُدخلت القوات إلى أراض معادية لم تكن قد طُهرت، ولم يكن هدف إدخالها ضرب المنظومة النارية لحزب الله أو منظومته القتالية، ووصلت القوات إلى وضعية وقف إطلاق النار، وهي متداخلة مع قوات العدو. نتيجة لذلك، نشأت مشكلة إمداد، لأن المنطقة لم تطهر. وإذا ما استخدمنا كلمات كاسبر واينبرغر عن فيتنام، نقول إن قيادة الجيش طلبت من جنودها، فقط، «أن يكونوا هناك»، لكن لا أن ينتصروا.
نشدّد هنا على أن الدخول إلى الجنوب اللبناني يقتضي المرور في معبر واقع في «مناطق قتل» أعدها حزب الله، لذا فهو خطير جداً، ويحصد ثمناً كبيراً جداً من القتلى. عليه، كان يجب أن نفهم بشكل دقيق ما هو الهدف من عملية الدخول البرية.
علاوة على ذلك، لم يكن طول فترة البقاء في الأراضي اللبنانية، وكذلك استراتيجية الخروج منها مرهونين بنا، بل باستعداد حزب الله للتوصل إلى اتفاق على شروط دخول الجيش اللبناني واليونيفيل إلى المنطقة. لقد ارتكزت طريقة تفكير الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب على مبدأ تدمير الأهداف بالنار، من دون استخدام القوات البرية بالشكل الديناميكي الذي أعطانا الانتصارات في الماضي: تشخيص مكامن ضعف الخصم، المفاجأة، الخديعة، المناورة بالعمق، إخراج العدو عن اتزانه، استغلال النجاح ومواصلة الضغط.
يجب ألا نطبق المعارك مع جيوش نظامية على المواجهة مع عصابات تعمل بواسطة مجموعات مستقلة ليس لها «مركز ثقل عملياتي». فمثلاً، لا يوجد في حالة العصابات، معنى أو أهمية كبيرة، لفصل خطوط الإمداد وقطعها أو تطويق المستوى العملياتي الأول. إلا أنّ لأي تشكيل، بما في ذلك تشكيل العصابات، نقاط ضعف. الاستراتيجي الصيني «سون تسو» قال إن هدف القائد العسكري هو أن يفرض على خصمه طابع الحرب الذي يتمتع فيه هو بتفوق نسبي، وعدم الانجرار إلى حرب ذات طابع يكون فيه التفوق النسبي للخصم. ويمضي قائلاً: إذا لم يكن هذا ممكناً، فينبغي الامتناع عن المعركة. وبلغة «كلاوزفيتش»: في الحرب يجب مهاجمة مخططات الخصم. لقد لعبت إسرائيل وفقاً لقواعد حزب الله، وأدارت معركة تتلاءم مع خططه وتفوقه. وهكذا، ومنذ البداية تقريباً، لم يكن بإمكانها الانتصار.
من المبكر جداً تقدير النتائج السياسية البعيدة المدى لهذه الحرب، وما زال من غير الممكن تقدير إذا ما تحركت في لبنان تيارات تحت أرضية قد تتمخض عنها ثمار في المستقبل. لقد مر لبنان بهزة أرضية، لكن لغاية الآن، ليس متاحاً الوقوف على الآثار السياسية والاجتماعية التي خلفتها. رغم ذلك، بالنسبة إلى إسرائيل، انتهت المعركة مع انعكاسات خطيرة ستمتد لسنوات: كنتيجة مباشرة وغير مباشرة لاستخدام القوة.

نتائج مباشرة

في النتائج المباشرة: إن الضمور الذي لحق بمفاهيم الجيش الإسرائيلي حول بناء قوته واستخدامها وما اقترن بذلك من تصورات ناشئة عنه أدى إلى عدم النجاح في ضرب وقمع بل وحتى التشويش الجوهري على عمليات حزب الله وفقاً للمعايير الأساسية للنموذج العسكري الكلاسيكي غير العصاباتي الذي اختار حزب الله تبنيه. وهكذا، استمرت المنظومة النارية لحزب الله في إمطار إسرائيل بالصواريخ، إلى أن وصل عددها قبيل نهاية المعركة إلى أكثر من 200 صاروخ يومياً، بعد أن كانت في بدايتها حوالى مئة صاروخ يومياً (مع العلم أن الميل كان لمصلحة الصواريخ القصيرة المدى). كما واصلت قوات حزب الله البرية قتالها وإيقاع الخسائر في الجيش الإسرائيلي، حتى أن عناصر الحزب لم ينهاروا ولم يهربوا في غالبية المعارك التي خسروا فيها.
كما واصلت منظومة القيادة والسيطرة في حزب الله أداءها بشكل جيد طوال مسار الحرب، وبقيت الروح القتالية لحزب الله صلبة وصامدة في غالبيتها. وما من دلائل على أن الرغبة السياسية لديه تصدعت بشكل غير قابل للترميم.
صحيح أن حزب الله فضّل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكن من منطلق الرغبة المحقة «للإبقاء على مكاسبه»، أي أن يوقف النار في المرحلة التي تكون فيها قوته في أوجها، وبالتالي يظهر كمنتصر، بعيداً عن وقف النار انطلاقاً من ضائقة أو محنة، أو من حسابات ترى أنه على وشك الانهيار. وفعلاً، بنظر حزب الله، وبنظر بعض الأطراف العربية الأخرى التي تابعت الحرب، خرج حزب الله منتصراً.

نتائج غير مباشرة

أما في النتائج غير المباشرة: فإن حقيقة أن بضع مئات من مقاتلي حزب الله وقفوا في ساحة المعركة قبالة أربع فرق عسكرية وقبالة سلاح الجو الإسرائيلي وتمكنوا من الصمود حتى النهاية ومن توجيه ضربات مؤلمة لقوات جيش الدفاع، من شأنها أن تخلف تداعيات مقلقة. بعض الذين تابعوا مسار الحرب قد يستخلصون ـــــ عن حق أو غير حق ـــــ أن جيش الدفاع اليوم ليس جيش الدفاع، والجندي الإسرائيلي (والغربي بشكل عام)، ضعيف، ويجد صعوبة في مواجهة مصاعب المعركة. ومن الصعب الوقوف على حدود هذه النظرة إذا ما تمأسست.
منذ العام 1967 والشرق الأوسط يدار وفقاً لمفهوم التفوق العسكري الإسرائيلي المطلق. لذا، منذ عام 1967، لم يتم تحدي إسرائيل بشكل جدي. وفي عام 1973، وضع المصريون والسوريون لأنفسهم أهدافاً لعملية متواضعة: «اختراق بطول 10 كلم». وعندما حققوها توقفوا بمبادرة منهم، ومكن توقفهم جيش الدفاع من الانتظام والخروج في هجوم مضاد والانتصار في المعركة.
منذ عام 1973، لم يُصر إلى تحدي إسرائيل في حرب شاملة. والمفهوم المتعلق بالتفوق العسكري الإسرائيلي هو الذي أوجد الظروف لاتفاقيات السلام مع مصر والأردن والمسيرة السلمية مع الفلسطينيين و 33 عاماً من الهدوء على هضبة الجولان، وهو الذي مكّن إسرائيل من إقامة اقتصاد سلام ومجتمع رفاه ووفرة رغم غياب السلام.
وبفضل التفوق العسكري، تحوّلت إسرائيل إلى كنز استراتيجي للولايات المتحدة، يستحق أن يُستثمر ويُنفق عليه مئات مليارات الدولارات من المساعدات، إضافة إلى إعطائه ضمانات بعشرات مليارات الدولارات، وتوفير الوسائل القتالية والغطاء السياسي.
لكن الطريقة التي أُديرت وانتهت ورويت فيها حرب لبنان الثانية، من شأنها أن تؤثر على مفهوم التفوق العسكري الإسرائيلي، وبالتالي أن تكون لها تأثيرات على أوجه كثيرة للواقع الذي نعيشه منذ عام 1967.
من الصعب التنبؤ بنيات سياسية مستقبلية وتقدير معقولية حصول حرب جديدة، لكن يبدو أنه نتيجة لحرب لبنان الثانية، قد يُقدّر جزء من الأطراف المعنية، إمكان مواجهة إسرائيل في ساحة المعركة وإنهاء هذه المواجهة بإنجاز. لذا، يبدو أن الكوابح أمام حرب إضافية في الشرق الأوسط، قد تقلّصت.




الكاتب
رون طيرا
(باحث عسكري في شؤون سلاح الجو، شغل سابقاً منصباً رفيعاً في استخبارات سلاح الجو الإسرائيلي)

العنوان الأصلي
تكسير عظام اللافقريات




اجزاء ملف "بناء القوّة الإسرائيليّة والخلل في الأولويّات":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث