جان عزيز
«مجنون ميشال عون!» قالها أحد القريبين جداً منه همساً وبوحاً قبل أسابيع قليلة. مَن يجرؤ على خوض معركة انتخابية، اليوم، في المتن، وضد أمين الجميل؟
هكذا كان البحث في جميع الحلقات السياسية. وغالباً ما كان ينتهي إلى استنتاج واحد: إنه يهوّل على الأكثرية ليكسب ثمناً في المقابل. لكن يستحيل أن يخوض المعركة. حتى إن بعض أركانه لم يتردد في التصريح بدايةً، أن الترشيح ليس سوى مجاراة لتعليمة ميشال المر، في أن يكون الطاعن في مرسوم الدعوة إلى الانتخابات، صاحب مصلحة. إذن الترشيح لضمان قبول الطعن، وتنتهي المسألة عند هذا الحد. لم يكن أحد يصدق أن عون سيخوض المعركة. أنصاره ومحبّوه كانوا يستعرضون جدول المحاذير الطويل:
«الآن»، هو التوقيت الأسوأ للمعركة. مقعد شاغر بغياب شهيد، لا بحادث سير، ولا بوفاة طبيعية. والراحل اسمه بيار الجميل، لا بيار حلو، ولا إدمون نعيم. مع احترام كل الأشخاص والمقامات. بيار الحفيد، والابن، وابن الأخ... إلى كل شجرة العظام في العائلة العريقة. وهو أيضاً بيار الذي عاد قبل أشهر إلى حزب الكتائب. حزب «إذا كان لبنان في خطر، بمَن تفكّر؟». وهي عودته النيزكيّة ما ضخّ في الحزب دينامية شبابية لافتة. وهو بيار «أسقطه» ناخبوه في غفلة قبل سنتين. وقيل إن قسماً منهم أصيب لاحقاً بالذنب، وبيار على قيد الحياة، فكيف بعد رحيله اغتيالاً واستشهاداً. وهو أيضاً بيار الذي قضى أيامه الأخيرة على خصام مع ميشال عون، لامس من جهته حدّ الاستعداء. وهو أخيراً بيار الذي مثّلت لحظة غيابه مناسبة لتحالف كواسر ضد ميشال عون، حاول «اغتياله» بالسياسة والاجتماع والأصول، مساء 21 تشرين الثاني الماضي.
و«الآن» نفسه، هو التوقيت الأسوأ للمعركة من الجهة المقابلة. ميشال عون في حال تفاهم مع «حزب الله». و«الحزب» في حال عدم فهم في بعض البيئة المسيحية. والاثنان في حال اعتراض على «حكومة الاستقلال الثاني»، وفي حال اعتصام غير «مبلوع» في وسط بيروت، وفي حال عدم إبلال من إضراب 23 كانون الثاني الماضي.
و«الآن» نفسه أيضاً وأيضاً، هو التوقيت الأسوأ لميشال عون، لأنه عشيّة الاستحقاق الرئاسي. وبالتالي فمواجهته لن تكون مع مرشح خصم. بل مع سلطة كاملة، بقضّها وقضيضها، بسبعها وضبعها، بملياراتها ومجنّسيها وأشباه ميليشياتها. ومع دول داعمة لها، وأخرى لن يضيرها أن تذلّل عقدة ميشال عون، علّها تسهّل فرص التسوية مع الدول الأولى. كأن ثمّة تقاطعاً من «كون سياسي» كامل، لسحق رجل واحد، هو ميشال عون، و«الآن».
ثم «هنا» هو المكان الأسوأ للمواجهة. هو المتن الشمالي، معقل آل الجميّل «منذ سبعين عاماً» كما قال صاحب البيت. وهو الدائرة النيابية والرئاسية والحزبية والسياسية للمرشح الخصم مباشرة، منذ 37 عاماً. حتى بشير الجميّل، في ذروة نفوذه لم يدخل المتن. ومعركة تل الزعتر الشهيرة استذكاراً اليوم، خير دليل على ذلك. يروي أحد حلفاء الجميّل اليوم، أن الطريق قُطعت على مهاجمي المخيّم يومها، لا دفاعاً عن الفلسطينيين، بل خوفاً من أن تؤدي المعركة ـــــ في حال نجاحها ـــــ إلى تسلّل بشير إلى المتن. وحتى سمير جعجع لم يدخله في 3 تشرين الأول عام 1988، إلّا شكلاً. أو بالتغيّب. تغيّب أمين الجميل عن المتن قسراً، لمجرّد أن ميشال عون لم يؤمّن له الحماية الكافية، كما تذكّرت بالأمس السيدة المكلومة بالثوب الأسود.
و«هنا» هو المكان الأسوأ للمنازلة. لأن المتن أرض الاقتصاد المرتبط بمركزية الحكم. هنا موظف في مصرف معني بتعميم، وهناك صاحب مؤسسة صغيرة أو وسطى مرتبط بتكليف مالي، وهنالك مَن ينتظر مصطافاً صُوّر له أنه لم يأت بسبب خيم بيروت أو دواليب 23 كانون... و«هنا» أرض «مباراة الثأر» الأقسى ضد ميشال عون، بعد اجتياح 2005 وما تلاه.
يبقى عنصر الاستحالة الثالث: مرشح خصم اسمه أمين الجميّل. قلّة فقط تعرفه باسمه. أما الأكثرية فلا تذكره إلاّ مقروناً بالألقاب، كما نصّ عليها استدعاؤه لدى وزير الداخلية، وتعميم الأخير بذلك. وبينها الشيخ بدايةً والفخامة نهايةً.
وفي مواجهة الاستحالات الثلاث تلك، جاء ميشال عون ليخوض المواجهة، الآن، هنا، وضد أمين الجميّل.
في التاريخ الماروني، على سيرة اقتراع الموارنة واتجاهاتهم والمزاج، ثمّة ثنائية عريقة بين الحلف والنهج. الحلف كان برؤوس ثلاثة: شمعون، الجميّل واده. وهم رئيس سابق ساحر و«رئيسان» دائمان بالقوة. أما النهج فكان برؤوس كثيرة، ترمّزت باسم واحد: فؤاد شهاب.
في عام 1960، كان الرئيس الساحر، في وضع مماثل لوضع ميشال عون السياسي اليوم. خاف كميل شمعون على «بوانتاجه» آنذاك. فلجأ إلى المتن الشمالي ليحتفظ بمقعده النيابي، إلى جانب جميّل آخر، هو الشيخ موريس.
وفي عام 1964، تشجّع أكثر، فعاد إلى الشوف ليهزمه كمال جنبلاط، فيما بيار الجميّل مطمئن إلى مقعده البيروتي، في معركة «الأصوات الأرمنية والأموال الكاثوليكية والأرض الأرثوذكسية»، كما كان يقال.
وحده عام 1968، وحّد العظام الثلاثة، فحققوا معاً «ظاهرة الحلف الثلاثي» التاريخية. بعد نحو 40 عاماً على ذلك الزمن، تجمّعت أسماء الحلف الثلاثي كلها، ومعها كل أسماء «الحلف» المستحدثة والمستجدّة. وانضمّ إلى «الحلف» كل رموز «النهج» السابق و«النهج» المعاصر، وانتهت المعركة بفوز ميشال عون، «الآن»، «هنا»، على أمين الجميّل.
بعد هذه النتيجة، كل ما بقي تبرير. الثابتة الوحيدة أن ميشال عون مجنون، حتى ينتصر، بالإذن من معادلة غسان تويني العسكريتارية.