عرفات حجازي
«انتخابات المتن انتهت بلا غالب ومغلوب، فكان هناك خاسر، ولم يكن هناك منتصر». بهذه العبارة أوجز رئيس الحكومة السابق سليم الحص معركة قاسية ومعقدة في ظروفها وتوقيتها واصطفافاتها، والشعارات التي حوّلتها إلى معركة ذات طبيعة مصيرية ومفصلية استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة.
وفي قراءة موضوعية ومتأنية لمدلولات هذه الانتخابات وتأثيراتها المحتملة على المشهد السياسي ومجمل الأزمة السياسية، يمكن رصد الاستنتاجات التالية:
أولاً: لا بدّ من تسجيل نجاح للتجربة الديموقراطية واحتكام الأطراف إلى صناديق الاقتراع لتقول كلمتها بعيداً عن لغة التهديد، والمنتصر في هذه المعركة كان الناخب المتني الذي أثبت أنه على مستوى عالٍ من الوعي، كما أثبتت الأحزاب والقوى على تنوعها واختلاف توجهاتها تمرساً باللعبة الديموقراطية، فمررت الاستحقاق من دون حوادث تذكر، رغم ما رافق المعركة وسبقها من أجواء تعبئة وشحن واستنفار. كما يسجل للحكومة، رغم المآخذ والانتقادات، أنها وفرت من خلال القوى الأمنية الأجواء الهادئة وحماية العملية الانتخابية رغم حدة الانقسام السياسي.
ثانياً: صحيح أن أرقام الصناديق أظهرت تراجعاً في شعبية العماد ميشال عون في الوسط الماروني، وهو ما استغله فريق الأكثرية ليرفع شعار «نهاية أسطورة عون» و«التمثيل الأحادي للمسيحيين»، متجاهلاً جملة اعتبارات تحكمت بهذه النتيجة بدءاً من إخراج المعركة من طابعها السياسي وتشويه الواقع بطرح المعركة بين أمين الجميل وحلفائه من جهة و«ريف دمشق» و«التحالف السوري ــ الإيراني» من جهة ثانية، مروراً بالأخبار الملفقة لتشويه صورة عون، وانتهاء بالعامل العاطفي الذي أحسن خصوم عون في استغلاله إلى أبعد الحدود والاستثمار على دم الوزير بيار الجميل، ما أثر في نفوس المتنيين غير المنتمين لأي تيارات حزبية، فتعاطوا مع الحدث الانتخابي بخلفية أخلاقية وعاطفية وإنسانية،.
ثالثاً: كان عون يدرك منذ البداية أنه دفع إلى المعركة دفعاً بعد سلسلة الاستفزازات التي تعرض لها مع تياره، وأعطى كل الفرص لنجاح محاولات التفاهم، لكن هذه المحاولات سقطت جميعاً، فبات أمام معركة لا يمكن تجنبها، وإن كان على علم بكل المعطيات والظروف الصعبة والمعاكسة، والمزاج المسيحي الذي لا يحبّذها. ومع ذلك صمم على دخولها مراهناً على كسبها بعدما أُلبست لبوساً استراتيجياً وأصبحت جزءاً من الأمن القومي الأميركي كما وصفها الرئيس نبيه بري.
رابعاً: خاض عون المعركة بشخص لا علاقة له بالوسط السياسي في وجه حزب وبيت تاريخي لمسيحيي لبنان، وفي مواجهة رئيس جمهورية سابق وابن مؤسس أعرق الأحزاب المسيحية ووزير ونائب لعدة دورات، فضلاً عن أنه يتقدم لملء مقعد شغر باغتيال نجله الشاب، ومع ذلك تمكن عون من إسقاط جميع خصومه من القيادات المسيحية التي خاضت المعركة مجتمعة، والأرقام التي حصدوها من الناخبين الموارنة كانت أرقاماً انتخابية للشهيد بيار الجميل والتعاطف مع بيته المنكوب ورفضهم لإقفال بيت سياسي له بصمات في تاريخ لبنان، من دون إسقاط موقف بكركي الذي فعل فعله وتأثيره في جمهور الناخبين المتنيين حيث بادرت منذ بدء المعركة إلى تزكية الجميل ودعت احترام التقاليد السياسية اللبنانية التي تراعي التوارث العائلي.
خامساً: المواقف التي أطلقها بعض القياديين في صفوف 14 آذار والتي عبّرت عن عنصرية لم تصب الأرمن فحسب، بل أصابت كل اللبنانيين، وكانت موضع شجب واستنكار من جميع القوى السياسية.
سادساً: إذا كان الجميل قد خسر موقعاً نيابياً في عقر داره، فإن عون لم يخرج بدوره بانتصارٍ مدوٍّ، وقد أُصيبت زعامته بشظايا في هذه المعركة ولم يستطع الاحتفاظ بالشعبية الكاسحة التي توافرت له من انتخابات عام 2005 وأعطته بحق أحادية التمثيل المسيحي، وهو ما يدفع بخصومه السياسيين إلى القول إن انتخابات المتن أغلقت طريق بعبدا أمامه، في حين أنها أعطت قوى 14 آذار فرصة أكبر لاختيار رئيس الجمهورية من صفوفها. مع ذلك تجاوز عون قطوعاً صعباً وخرج من شرك سياسي فرض عليه وحرم فريق الأكثرية هدفاً ثميناً يسجل في مرماه. وهكذا انتهت معركة قاسية، وخرج منها الخصمان غير راضيين، فلا المنتصر جاء انتصاره كاسحاً وحاسماً، ولا المهزوم كانت خسارته فاجعة، لأن المزاج الشعبي لم يخذله وثبّته رقماً صعباً في المعادلة المتنية.