حرمون ــ عساف أبو رحال
في قمة جبل الشيخ «حرمون» ثمة معبد قديم يُعزى الى الكنعانيين ويدعى اليوم «قصر شبيب». كانت قمم هذا الجبل بارتفاعها الشاهق «قرابة ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر»، وثلوجها الدائمة وسكينتها ومهابتها، مكانة عظيمة لدى الحضارات والشعوب الغابرة التي سادت المنطقة. وتوجّهت أنظار هؤلاء، ملوكاً وعامة الى الجبل حيث أقاموا مواقع للتعبد ووضع النذور. المعبد المذكور أحد هذه الأمكنة التي كان يُشدّ الرحال إليها بدليل النقوش التي عثر عليها منحوتة على حجارتها. وقد عمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي الى تدمير أجزاء منه كانت ثابتة في مكانها عام 1967، فأزالت بذلك أحد أكثر المعالم الأثرية أهمية في هذه المنطقة.
وإحياءً للقيمة التاريخية لقصر شبيب، وإدراجه على لائحة التراث الوطني لمديرية الآثار، أعلنت بلدية راشيا الوادي يومي 3 و4 من شهر آب موعداً للقيام برحلة الى قمة جبل الشيخ حيث الموقع الأثري المذكور لتصبح هذه المناسبة تقليداً سنوياً، وخصوصاً أن ثمة آثاراً لمعبد قديم آخر قبالة قصر شبيب يدعى قصر عنترة.

التسمية والموقع

يطل جبل حرمون على ثلاث دول هي لبنان وسوريا وفلسطين، ويقع في قلب منطقة المشرق العربي. وبسبب ارتفاعه الذي يقرب من ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر، كان محط أنظار الشعوب التي سكنت المنطقة منذ القدم، وأُطلقت عليه عبر التاريخ تسميات عدة. الآموريون سمّوه جبل «سينير» وتشير الكتابات المسمارية الآشورية اليه على نحو «سا ـ ني ـ رو»، والفينيقيون أطلقوا عليه اسم «سيريون»، والآراميون «طور ثلجا»، والرومان «فيوماجستو» ويعرف باسم جبل الشيخ أو جبل الثلج لدى العرب.
ومن المؤكد أن جبل حرمون كان مكاناً مقدّساً منذ القدم فرض نفسه على كل الشعوب المحيطة به، التي نظرت بإعجاب الى عظمته ومهابته وعلوه، وتحول ظاهرة طبيعية بسبب تراكم الثلوج على قممه، التي يروى أنها كانت ترطّب موائد ملوك صيدون وصور وملوك الفراعنة في مصر، إذ كانت الثلوج تُقتطع منه لتملأ حمولة ثلاث سفن. وبالعودة الى الجغرافيا وعلم الجيولوجيا فإن أول قمة ظهرت فوق سطح المياه في العصر الجيولوجي الثاني هي قمة حرمون. كما يُعدّ من حيث التكوين الجيولوجي واحداً من أهم الخزّانات المائية في منطقة الشرق الأوسط ومنه منابع نهر الأردن، ولعل تشبّث الإسرائيليين باحتلال مزارع شبعا يعزى الى الكميات الكبيرة من المياه الجوفية في هذا الجبل.

القصر والهيكل

وبالنظر الى الجبل وامتداده الواسع، اتخذ الكنعانيون إلها سمّوه بعل حرمون، وأقاموا على قممه هياكل ومعابد لا تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم، ولا تزال ماثلة للعيان بقايا الجدار العائد إلى أحد هذه الهياكل وطوله قرابة عشرة أمتار ويطلق عليه اليوم اسم «قصر شبيب» وداخل المعبد ثمة فتحة دائرية وصفها باحث الآثار الفرنسي «كلارمون غانو» بأنها ذات مساحة تراوح بين 26 و 30 قدماً مربعاً، وعمقها ثلاث أقدام كانت تستخدم في غابر الأزمنة مكاناً لإيداع النذور من جانب الصاعدين الى قمة الجبل، وقد وجد الرحالة البريطاني «السير تشارلز وون» قطعة من حجارة المعبد بطول 18 قدماً وعرضها 12 قدماً وسماكتها أربع أقدام، حفر عليها كتابات يونانية نقلها بعد نحتها الى دمشق في عهد رشيد باشا. ويفيد النقش بالمعنى الآتي: «بأمر من الإله الأعظم المقدس قدموا النذور في هذا المكان». ويميل هذا الرحالة الى الاعتقاد بأن هذه الإشارة كانت لإرشاد أصحاب النذور الى وجوب التعبد في هذا المكان حول الفتحة البيضاوية وتقع حالياً داخل موقع للقوات الدولية «الأندوف»، حيث هناك مغارة يعتقد أنها كانت معبداً للإله إيل.

الاحتلال الإسرائيلي

يذكر أن قصر شبيب كان شاهداً على أكبر المعارك العسكرية في حربي 1967 و 1973 وقد احتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وشقت طريقاً ترابية تربطه بباقي القمم الجنوبية لجبل الشيخ، ومنها إلى مزارع شبعا والجولان المحتل، ولا تزال هذه الطريق تُستخدم في التنقلات العسكرية الدولية في جزئها الشمالي، أما قسمها الجنوبي فلا يزال محتلاً يربط بين مراصد الاحتلال ومواقعه ويقول رعاة المواشي الذين يعرفون تضاريس المنطقة، إن جيش الإحتلال عمل في جرف بعض أجزاء القصر، ونقل قسماً من حجارته الى الجنوب عبر الطريق المذكور.
أرضه مرصوفة ببلاط حجري تبلغ سماكته نحو 30 سنتمتراً وحجارته متفاوتة الأحجام ويشرف على الأراضي السورية بشكل مباشر، وكان الاحتلال الإسرائيلي قد جرف معبداً مكمّلاً له يقع شرق الموقع الأثري، وتدل على ذلك أنقاض من الحجارة لا تزال باقية هناك. وبذلك فقد أزال الاحتلال معلماً أثرياً يقصده السياح.
تعدّ الفترة الممتدة من أوائل تموز حتى منتصف أيلول، الأنسب في موقع القصر، قبل حلول الشتاء وتساقط الثلوج وتدني درجات الحرارة، وفي هذا السياق ونتيجة لاهتمام بلدية راشيا الوادي والجمعيات الأهلية في المنطقة يجري الاستعداد لرحلة تقام سنوياً للراغبين في الصعود الى قمة جبل الشيخ، وقد أعلن رئيس البلدية زياد العريان 5 و 6 آب من كل عام موعداً للقيام بهذه الرحلة إذ يلتقي الجمع حيث موعد الانطلاق تحضيراً للصعود الى القمة»، مؤكداً أن من يرغب المشاركة يطلب منه الاتصال بالبلدية. وقال: «يندرج هذا النشاط ضمن خطة عامة تهدف الى وضع حرمون على لائحة التراث الوطني لمديرية الآثار، إضافة الى المعالم الأثرية الأخرى المنتشرة في وادي التيم، كما يرمي الى تشجيع السياحة البيئية وتأكيد أهمية حرمون من ناحية التنوع البيولوجي والنباتي المتوافر في سفوحه، هذه المناسبة باتت مرحلة هامة في تاريخ راشيا، بدأتها البلدية منذ ست سنوات وتدعو كل اللبنانيين للمشاركة فيها ونأمل أن تصبح لجميع المسيحيين في العالم كما كانت قبل عام 550 م.
قداس التجلي هذا العام أقامته البلدية في الهواء الطلق، وترأسه الأب ادوار شحادة بحضور نحو 500 مشارك من أهالي المنطقة وباقي المناطق اللبنانية الى جانبهم النائب السابق منيف الخطيب ورئيس البلدية. وألقى عظة العيد التي ركزت على وحي المناسبة التي تشارك فيها كل الطوائف، أعقبها عشاء قروي تبنته البلدية وسهرةٌ فنية امتدت حتى ساعات الصباح وسط برد حرمون القارس. ولمناسبة عيد التجلَي كرمت «جمعية محترف راشيا للثقافة والفنون»، لبنان الأب مارون عطا لله والمونسنيور بولس عقل والوفد المرافق من خلال الزيارة الروحية حيث قدّم رئيس الجمعية الفنان شوقي دلال مجموعة الإصدارات الأدبية والفكرية والشعرية لأبناء منطقة راشيا. وقالت ساندرا نجم من الحازمية إن هذه الزيارة هي الأولى لها إلى جبل حرمون المميز بموقعه الجغرافي، إضافة إلى الطابع الديني الذي يشد الكثيرين في هذه المناسبة.
ورأى ميشال مالك رئيس جمعية حرمون الخيرية، أن الجمعية بدأت مسيرات حج الى قمة الجبل منذ عام 1996 بهدف وضع أسس أن التجلي تم في حرمون. وقال: «منذ سنوات غرسنا شتولاً من شجر الأرز عند القمة على ارتفاع 2814 متراً ولم تنجح مهمتنا بسبب الارتفاع والجو البارد، ثم عاودنا نشاطنا على ارتفاع 1800 متر بإقامة محمية من الأرز واللزاب».
وأشار جورج صالح من دير الغزال البقاع إلى أن جبل حرمون يحوي نباتات يندر وجودها في أماكن أخرى مثل القتات، الشكرون، النعناع الجردي وغيرها. ويقول الدكتور منير مهنا إن نبتة الزلّوع تنبت تحت الثلوج بدءاً من ارتفاع 2500 متر وتنتشر حول القصر وتعرف باسم «روتس غالغامش». وكان عميد كلية الطب في جامعة ليون الفرنسية قد ذكر خلال رحلته الى قصر شبيب بين عامي 1880 و 1884 أنه عثر على نباتات مشابهة للزلوع في جبال الألب الفرنسية، كما أشار الى وجود الدببة الهوام المتنقّلة فوق الثلوج.