strong>عفيف دياب
خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان، كانت حرب من نوع آخر تدور في جرود عرسال ورأس بعلبك العالية. حرب سرية استمرت 33 يوماً انتصر فيها «المهرّبون» على إسرائيل بعد أن قدموا 9 شهداء لبنانيين وسوريين وأكثر من 20 جريحاً.
أكثر من 300 «مهرّب» لبناني عملوا خلال العدوان الاسرائيلي على تأمين مادة المازوت «المهرّب» من سوريا والعراق إلى مستشفيات ومستوصفات وأفران ومؤسسات إعلامية وفنادق منتشرة على مختلف الأراضي اللبنانية، ولا سيما في مناطق الجنوب اللبناني حيث كانت تعاني هذه المؤسسات، ولا سيما المستشفيات من أزمة فقدان مادة المازوت. وساهم «غضّ النظر» السوري وغياب الدوريات الأمنية اللبنانية كثيراً في نشاط عمليات التهريب الذي وصل إلى ذروته بعد أن سمحت سوريا أيضاً بوصول «الصهاريج» اللبنانية الى الحدود العراقية لنقل المازوت مباشرة إلى لبنان بمساعدة «مهربين» سوريين.
يقول أكرم عز الدين (35 عاماً) إنه كان يعبر بصهريجه إلى داخل الأراضي السورية ويمرّ قرب دوريات مراقبة الحدود السورية التي «لم تكن تتعاطى معنا، بل كانت تساعدنا في سلوك طرقات أقلّ وعورة، حتى إن قطّاع الطرق غابوا ولم يقدِموا على أيّ عمل ضدّنا كما جرت العادة في الأيام الطبيعية»!
تعرّض أكرم لأكثر من غارة جوية إسرائيلية داخل الاراضي اللبنانية خلال «نقله» المازوت من عرسال الى إقليم الخروب: «كنا نأخذ احتياطات من قبيل عدم السير في قافلة واحدة وكنا ننزل من الصهريج ونبتعد عنه حين نسمع أصوات هدير الطائرات أو طائرة الأم. ك.».
نجح أكرم في تأمين المازوت الى مستشفى في جزين وآخر في صيدا والى «محطة محروقات تتعامل مع المقاومة في منطقة الريحان، كما أوصلت المازوت الى بيروت وانطلياس وبعض مناطق الجبل».
قام أكرم و«مجموعته» بنحو 15 مهمة نقل مازوت من داخل الاراضي السورية الى مناطق لبنانية مختلفة: «أكثر رحلة تعرضت فيها للخطر كانت يوم قصفت المقاومة البارجة الحربية. كنت متوجهاً الى الجنوب وتعرّضت لغارة جوية قرب رياق وأخرى على طريق ترشيش، ويومها لم يعد رفيقي فادي قادراً على قيادة الصهريج المحمّل بعشرين ألف ليتر من المازوت».
كانت رحلة المازوت المهرّب الى المستشفيات في الجنوب تستغرق من عرسال الى صور نحو 20 ساعة. ويقول أبو مرزوق (27 عاماً) الذي كان يشكل فريقاً «منظماً» مع سبعة أشخاص إن «الرحلة» من عرسال الى صور «كانت صعبة جداً، فالطائرات تقصف كل شيء وتحديداً صهاريج المازوت، وقد تعرّضت لأكثر من غارة نجوت منها في الجمالية وجرح رفيقي، وعلى طريق شارون ـ المديرج، ومن غارة على طريق صيدا ـ صور».
بعد أن أصبحت الصهاريج هدفاً للطائرات الاسرائيلية ابتدع المهربون أساليب نقل أخرى، فحولوا الحافلات الصغيرة إلى «صهاريج محملة بالمازوت بعد نزع المقاعد ووضع خزانات تتسع لنحو 3 آلاف ليتر. ويوضح «أبو حديد» (26 عاماً) أنه استطاع إيصال نحو 9 آلاف ليتر من المازوت المهرب إلى مستشفى في مدينة صور وآخر في صيدا وثالث في الغازية، كما استطاع إيصال المازوت الى مدارس في صيدا كانت تؤوي نازحين، ومحطات محروقات في بئر حسن، ورفيقي «القائد» أوصل المازوت الى محطة تلفزيونية في بيروت والى مستوصف في أرض جلول، كما زوّدنا 3 فنادق في بيروت بكميات كبيرة».
أبو حديد ورفيقه أبو عز الدين نجحا في الوصول الى الحدود العراقية لتأمين المازوت المهرب من العراق الى سوريا بعد أن ازداد الطلب «توفيراً للوقت وهروباً من احتكار التجار السوريين». يقول أبو عز الدين، الذي أصيب مرة ثانية في غارة جوية على طريق ترشيش ـ كفرسلوان، وفي غارة أخرى على طريق بعلبك ـ عرسال، وفقد 3 من رفاقه الذين استشهدوا في الغارات التي استهدفت قافلتهم في جرود عرسال إن «ازدياد الطلب على المازوت ألزمنا دخول عمق الاراضي السورية وصولاً الى الحدود العراقية لتأمين المازوت، وكان السوريون يعرفون ذلك وسهلوا لنا الأمر وكانوا يرشدوننا على الطرقات الأسهل والأقرب وكانت الرحلة داخل الاراضي السورية تستغرق 15 ساعة، وأكثر من 20 ساعة داخل الأراضي اللبنانية لأن معظم الطرقات قطعت جراء القصف».
استحدث مهربو المازوت غرف عمليات تعطي توجيهاتها خلال التحرك على الاراضي اللبنانية. ويقول «القائد» إنهم كانوا يضعون «خطة» تحرك الفانات والصهاريج «كنا ننطلق في قافلة من 6 أو 7 صهاريج و3 فانات وسيارة صغيرة بجانب سائقها المراقب، تتولى السيارة المسير ليلاً من دون إضاءة الانوار في المقدمة وتكون بعيدة حوالى 20 الى 30 متراً عن أول صهريج، وكنت أعطي الإرشادات عن حال الطرق وأماكن الغارات وما إذا كانت هناك طائرات حربية إسرائيلية تحلق أو تغير، وعندما كانت تشتد الغارات كنا ننفصل بعضنا عن بعض وكل صهريج وفان يأخذ طريقاً». تعرّض «القائد» لأكثر من غارة جوية في منطقة الجرد الواقع ما بين عرسال ونحلة، وعلى طريق السعيدة (البقاع) وثالثة على طريق ترشيش، ونجا من إنزالين جويين في جرود عرسال ونحلة.
أكثر من مئة صهريج (سعة الواحد من 25 الى 33 ألف ليتر مازوت) و400 آلية صغيرة (فان وبيك ـ آب) كانت تعملون طوال فترة العدوان في نقل وتأمين المازوت المهرب الى الداخل اللبناني المحاصر بالغارات الاسرائيلية. ويقول فؤاد (28 عاماً) أنه قام وحده بحوالى 33 «نقلة» مازوت الى بيروت وصيدا والى مستشفى في صور و«تعرضت لغارة جوية نجوت منها بعد أن طاردتني طائرة «ام.ك» من اللبوة حتى بعلبك حين أغارت طائرة حربية على طريق بعلبك فسقطت في الحفرة التي أحدثتها الصواريخ وأصبت في يدي».
ويؤكد «المهرّبون» أنهم لم يستغلوا ظروف العدوان لرفع الأسعار. ويقول أكرم عز الدين إن الكميات الكبيرة من المازوت كانت كفيلة بـ«ربح وفير نتيجة فرق الأسعار ما بين لبنان وسوريا، وكنا نشتري الصفيحة الواحدة بعشرة آلاف ليرة لبنانية ونبيعها فقط بخمسة عشر ألف ليرة واصلة الى المستشفى أو الفرن، حتى إن بعضنا قدم كميات من المازوت مجاناً».
ويوضح «أبو حديد» أنهم كانوا عرضة لـ«استغلال بعض التجار السوريين الذين رفعوا الأسعار فاضطررنا الى رفع سعر الصفيحة إلى 17 ألف ليرة»، فيما يؤكد أبو مرزوق أن «الربح من تهريب المازوت اليوم أفضل بكثير من أيام الحرب، وكان بإمكاننا ان نبيع التنكة بخمسين ألف ليرة».