strong> أسامة القادري
«أطلب العوض من الله، النصر يا ابني ما بيجي بالهيّن، الكرامة بدها دم».
بهذه الكلمات يحاول الحاج أحمد صادر، ابن السبعين عاماً، أن يتغلب على ألم الذكرى. هو الناجي الوحيد من الغارة التي استهدفت منزله في بلدة مشغرة عند الساعة الواحدة والربع فجر 9 آب، فقضت على سبعة من أفراد أسرته وهم نائمون، وحوّلت منزله المؤلف من أربع طبقات إلى ركام. قالت اسرائيل حينها إنها استهدفت موقعاً للمقاومة. لم يكن المنزل سوى «تعب» السنين و«عرق» الجبين.
سنة مرّت على إصابته ولا يزال ممدّداً على سريره، لا يستطيع الحراك. أخضع لسبع عمليات جراحية متتالية جرّاء إصابة بالغة في بطنه وباقي أنحاء جسده. لم يدرك أنهم انتشلوه من تحت الردم في المطبخ وأنه نجا بأعجوبة فيما استشهد جميع أفراد عائلته الموجودين في المنزل إلا بعد أن أفاق من غيبوبته في مستشفى جب جنين.
يمسح جبينه وهو يقول «لا حول ولا قوة إلا بالله» ثم يردف باعتزاز «طيلة فترة الحرب حتى ليلة المجزرة وأنا أداوم يومياً من دون انقطاع قاصداً الجنينة لأروي البندورات وأنقّي أشجار الكرز والتفاح».
يضيف «كل فترة الحرب وحتى ليلة الغارة لم نحتجْ لشيء، وكنا نعتمد على إنتاجنا من الارض والمؤونة». يمسح دمعته ليخفي غصة تلازمه في كل تنهيدة ثم يضيف «كنا نعتقد أن الحي الفوقاني في مشغرة لن تضربه الطائرات».
يستعيد ليلة المجزرة: «أنا بطبعي لا أحب السهر وأنام باكراً. يومها استيقظت قبل الضربة بساعة وربع، قالت لي زوجة ابني يا عمي في طيران بالجو، قلتلّن اتكلوا على الله وناموا». يضرب بكفيه على أطراف سريره ويتابع «ما صحيت الا وأنا بالمستشفى عم بنادي على ولادي ونسوانهم ومرتي وأختها، حسيت بالدمعة بعين ابني ابراهيم اللي كان بالشام لما قال لي توكل بالله يابا، هيك عرفت انو كل اللي بالبيت ماتوا».
لم يستطع أبو ابراهيم المؤمن والصابر على الفراق أن يخفي حزنه على أفراد عائلته. تطفح عيناه بالدموع عندما يبدأ بالحديث عن زوجته الشهيدة الحاجة زينب صادر «لم تقبل أن تتركني، كانت شجاعة». عندما قرر ابنها البكر النزوح الى سوريا وطلب منها أن تذهب معه هي وأختها فاطمة رفضت وقالت له «لأ يا أمي بدي ابقى مع بيك روحي معلقة بروحو». يهز أبو ابراهيم رأسه ويقول «قبل الفاجعة بأربعة أيام كنا بالأرض أنا وإياها، طلبت مني أن نسامح بعضنا، سامحتها وسامحتني... الله يرحمها... صبرت معي عالحلوة والمرة». وأيضاً أختها (فاطمة صادر) رفضت أن تغادر بلدتها ورزقها. وحين يصل بالدور إلى ابنيه وزوجتيهما يزداد انفعاله: «حسن الأمين والهادئ اللي ما بيعرف الصوت العالي أبداً، لم نسمع صوته هو وزوجته زينب السيد وم عم يتخانقوا، كانت مؤمنة بالقضاء والقدر لأنها صبورة». زينب مدرّسة في احدى مدارس البلدة، عرفت كيف تعامل الاطفال ويتعلقون بها «متل ما نحن خسرناها خسرتها المدرسة» يتابع بألم «الله يرحمها اللي شافته بمنامها قبل استشهادها بشهر تحقق»... كانت رأت في منامها أنها مقطوعة الى نصفين وأن المنزل مدمر ومحروق.
أما عن ابنه علي فيتحدث بابتسامة الرضى والفخر «هذه أمنيته، كان تواقاً للشهادة... كان يردد دائماً: لا طعم للوطن من دون حرية وكرامة(..)». علي من شباب مشغرة الذين كانوا مستعدين احترازياً لأي إنزال أو أي اشتباك مع العدو في البلدة رغم أن البلدة لم تكن تشهد مظاهر مسلحة. يخفت صوته «الله جاب الله أخذ» ويتابع: «كان مؤمناً بأن الموت حق، محبوب من كل رفاقه وإخوانه لأنه شجاع» كذلك زوجته ناديا قاسم «لم تفارقه إطلاقاً أثناء الحرب ولم تحاول ثنيه عن صموده في البلدة. كانت صابرة رغم أنها لم تنجب بعد 11 عاماً على الزواج. لم نلحظ عليهما يوماً أي امتعاض، وهي رفضت أن تترك زوجها لتذهب مع بنت حميها الى دمشق كي لا تترك «علي وحده».
خلال حديثنا معه تدخل ابنته فاطمة التي كانت قد نزحت مع شقيقها البكر الى دمشق. تروي كيف تلقّت الخبر بصوت متهدج، وأنها سمعت عبر التلفزيون عند الساعة العاشرة مساء أن قصفاً اسرائيلياً عنيفاً ومتواصلاً يستهدف خراج مشغرة وعيتنيت «ما اجا النوم لعيوني». انتفضت عند الساعة الواحدة والنصف بعدما سمعت هاتف أخيها ابراهيم يرنّ ثم يردّ ويهرع إلى تشغيل التلفزيون... لم يتوقف هاتفه عن الرنين. أسرعت إليه وسألته عن أهلها وماذا حلّ بهم، استطاع أن يتمالك نفسه ولم يخبرها بالفاجعة التي حلّت بأهله انما قال لها «روحي نامي ما في شي». ذهبت الى سريرها وعندما غفت عيونها عند الساعة الرابعة صباحاً «انتفضت الساعة الرابعة والنصف على رؤية أمي وخالتي في منامي، أمي نفخت في وجهي وخالتي قالت لي اقرئي لي مجلس». نهضت من فراشها مسرعة الى التلفزيون. فوجدت أخاها ابراهيم غارقاً في البكاء إذ كان قد تأكد أن الغارة الاسرائيلية استهدفت منزلهم وأن من فيه قضوا شهداء...
الحاج ذيب علي صادر هو والد الشهيد محمد صادر، يروي أن محمد «لم يكن موجوداً في المبنى الذي استهدفته الغارة بل بالقرب منه لأنه من الشباب الذين كانوا يحرسون البلدة منعاً لأي انزال قد يحصل في مشغرة».
كان الحاج ذيب في منزله القريب من منزل الحاج أبو ابراهيم، وكان في ضيافته عائلة من الحي «التحتاني». كان يتوقع استهداف مشغرة «لذلك كانوا الشباب جاهزين لأي معركة» لكن ما لم يتوقعه هو استهداف الحارة الفوقا. بعد دويّ صوت نقله من مكانه، انتفض وخرج على وجه السرعة لمعرفة من الذي استهدفته الغارة. ذهل عندما رأى المشهد الضخم الذي أحاط بكل شيء «منظر الله لا يورجيك إياه، كلّ شيء رمادي، الغبار والدخان سيطرا على البلدة». ما ان اقترب قليلًا حتى شدّه أحد الشبان وجرّه باتجاه أحد منازل الجيران. المشهد كان عنيفاً، علقت في حلقه غصة والد فقد ابنه «لم أكن أعرف أن ابني من الذين قضوا تحت الردم» لكن ما رآه جعله يتأكد أن ابن عمه وعائلته استشهدوا داخل المنزل.
يسكن الحاج أحمد صادر اليوم عند ابن عمه عارف صادر الذي ذهب إليه في دمشق وقدم له مفتاح منزل ابنه المقيم في بيروت، ليقيم فيه هو وابنته فاطمة، ويقيم ابنه ابراهيم وعائلته في منزل أحد أقاربه الذي قدم له المنزل من دون أي مقابل.




شهداء المجزرة

حسن أحمد صادر ـ علي أحمد صادر ـ فاطمة صادر ـ زينب صادر ـ ناديا قاسم ـ زينب فيصل السيد ـ محمد ذيب صادر.




كارولين صباح

في اللويزة وقفت هنادي تنتظر والدها

صورة الغارة التي استهدفت منزل غالب هاشم، الموظف في الصليب الأحمر اللبناني، في بلدته اللويزة، لا تزال ندوبها في قلبه هو وزوجته لفقدانهما ابنتهما هنادي (12 عاماً) ووالدته رشيدة مقلّد (70 عاماً) وشقيقته إلهام (37 عاماً). وزاد من فاجعته أنه عثر قبل شهر تقريباً، عشية الذكرى الأولى للمجزرة، على قطعة عظم من جسد ابنته بينما كان يحفر في الحقل القريب من المنزل الذي يعيد بناءه.
كان يفترض أن يكون 1 آب اليوم الثاني من الهدنة، لكن اسرائيل لم تتوانَ عن ارتكاب المجازر في ذلك اليوم. فقد ألقت الطائرات الاسرائيلية مناشير فوق البلدة تطلب من الأهالي المغادرة. إلا أن غالب لم يأخذ التهديد على محمل الجد وبدأ بمساعدة أهالي البلدة على حفر الطريق لمدّ قساطل تجرّ المياه من البئر الموجودة في
البلدة.
خلال عمله مرّت شقيقته مريم وأولادها الثلاثة، ثم شقيقته نهى، وكانوا استقلوا باصاً لمغادرة البلدة. أما ابنته هنادي فطلبت من أمها أن تنادي والدها لأنها لا تريد البقاء في القرية. «استقلت زوجتي السيارة، وما إن خرجت بها من الكاراج حتى تعطّلت، خرج سراج إبراهيم ليستطلع الأمر، ووقفت هنادي على درج البيت عند المدخل تنظر بعتب نحو والدتها، وكانت تلك اللحظة الأخيرة».
كان غالب يتمنى في الذكرى الأولى لاستشهاد عائلته أن يتبلّغ خبراً مفرحاً عن الدعوى التي ينوي رفعها ضد اسرائيل هو وبقية عائلات الشهداء، «بيد أن المحامي أبلغني أن الدولة اللبنانية رفضت رفع دعوى على اسرائيل، لأنه على المدعي أن يحمل جنسية ثانية غير جنسيته اللبنانية إذا أراد الادعاء. منطق مخجل لدولة عانت همجية اسرائيل وحقدها منذ أكثر من خمسين عاماً، ولا تريد الاقتصاص من قاتل
أبنائها!».