راجانا حميّة
صرّح مصدر أمني لبناني أنّ إنزالاً جرى في منطقة بوداي، سبقه قبل يومين تحليق مروحي وغارات وهمية بين منطقتي دير الأحمر واليمونة. وسُجّل قبل يوم واحد تحليق مكثّف للطائرات الحربية والمروحية، وهذا ما أكّد الخبر بأنّ جنود «سييرت متكال» نزلوا في جرود أفقا عند التاسعة من مساء الثامن عشر من آب 2006

فجر التاسع عشر من آب عام 2006: سماء مدينة بعلبك لا تشبه نفسها. طائرات «الرعب» عاودت نشاطها، كاسرة صمت مدافع لم يمضِ على غيابها خمسة أيّام. خمسة أيّام فقط شهدت وقفاً رسميّاً لأحزمة النار، عادت بعدها الغارات في المنطقة إلى ما كانت عليه خلال الثلاثة والثلاثين يوماً، مطلقةً العنان لـ«التخبّط» الإسرائيلي بين الرحيل والعودة لاستعادة بعض ماء الوجه.
الثامن عشر من آب 2006، وقبل يوم واحد من ذاك الفجر، شنّت طائرة الاستطلاع الإسرائيليّة (أم. كا) حملة «تمشيط» واسعة لبعلبك ومحيط سهل منطقة بوداي، «إحدى المناطق التابعة معنويّاً لحزب الله»، كما يحبّذ النائب في كتلة الوفاء للمقاومة جمال الطقش تسميتها. صوّرت «أم كامل» جميع التحرّكات والمنازل، بما فيها منزل «المطلوب» عضو مجلس شورى حزب الله الشيخ محمّد يزبك ومكتبه ومحيط مجمّع المرتضى التربوي، علماً بأنّ طائرة الاستطلاع لم تغب منذ ساعات الصباح الأولى، مكثّفة نشاطها بين الرابعة والخامسة والنصف عصراً، خلال تشييع الشهيد محمود عسّاف.
عقب التشييع، تلقّى علي مراد، أحد الشهود على الإنزال، اتّصالاً من والدته ليذهب إلى السهل من أجل ريّ «الدخّانات عالبرود». حمل عدّته، وتوجّه وشقيقه إلى الأرض. روى علي من المزروعات «اللي فيه النصيب... وطبعاً على صوت أم كامل، إلى أن اختفت عند التاسعة تقريباً». تنحّت «أم كامل»، مُخلية سماء بوداي للطائرات المروحيّة والحربيّة التي غزت المنطقة بالغارات
الوهميّة.
عند التاسعة والنصف مساءً، كان علي لا يزال مشغولاً بـ«السقاية». فجأة، طرقت أذنيه أصوات متضاربة «بين الحربي والمروحي»، قلبه ينبئه بالسوء، «فقد أحسست بأنّ شيئاً ما سيحدث، من دون أن أعرف طبيعته». بعدها، بدأت الطائرات الحربية بطلعاتها الوهميّة، رافقها صوت «طائرتين مروحيتين بالجرد»، عرف بعدها علي «بعد إحداثية من الشباب أنّ المروحيتين أنزلتا مجموعة من فرقة كوماندوس «سييرت متكال» (وحدة الأركان العامّة الخاصّة) بلباس الجيش اللبناني ومعدّاتها وسيارتين، إحداهما من نوع هامر والثانية ويلس في منطقة أفقا».
بعد نصف ساعة، انتهت الغارات وتابع علي عمله، بعدما فقد الأمل بمجيء الرفاق «لنسهر شوي ونعمل أركيلة»، حتّى الثالثة والنصف فجراً، حين وصلت المعلومات «من أحد الشباب في منطقة جبيل إلى البلدة عن إنزال محتمليحرص علي على سرد التفاصيل كما لو أنّه لا يزال في ذلك «اليوم الأسود»، بعدما شهد المعركة «لايف» من بين قمح الجيران، يبدأ في حكايته من «أفقا حيث أُفدنا بأنّ سيارتين مطفأتي الأنوار تتوجّهان صوب المنطقة، ولم يجرِ التحقّق من الموجودين فيهما». يتذكّر علي «أنّ الليلة كانت معتمة»، ولم يكن بإمكان الشباب «هناك التأكّد من الهويّات، وخصوصاً أنّ المقاومين لم يكونوا ظاهرين للعيان»، بعدما طلب الجيش اللبناني إخفاء المظاهر الأمنيّة في الشوارع. ولعلّ طلب الجيش أسهم في تعزيز الشكّ بأنّ الدوريّة «غير لبنانيّة».
الهويّة «الضائعة» وضعت حزب الله أمام خيارين: إمّا «الظهور» قبل الموعد المناسب، وإمّا إعلام «الخلايا الموجودة في المنطقة المستهدفة بتفاصيل الموكب». كان الخيار الثاني أقرب إلى الواقع. تمّ إعلام إحدى المجموعات في بوداي، التي قامت باستنهاض المجموعات الأخرى «والتي كانت على علم سابق باحتمال حصول شيء، لذلك كانت على استعداد للمهمّة من أسلحة وكمائن»، كما يشير رئيس البلديّة محمّد شمص، تاركاً تفاصيل «الصدام» إلى علي الذي عايشه طوال أربعين دقيقة، وعاشه «بدل ضائع».
استعادت المجموعات و«المقرّبون» تمركزهم عند النقاط الأمنية والأسلحة، بعدما كان الحزب قد سحبها عقب انتهاء الحرب، ونصبت الحواجز والكمائن على امتداد الطريق التي تربط بوداي بـ«المعابر المحتملة». شمص، الذي كان، كما «رجال الله»، كتوماً لجهة المعلومات التي ترتبط بالمقاتلين، أبدى حماسته في «إفشاء» تفاصيل وجهة سير فرقة «النخبة» الإسرائيليّة، مردفاً «اجتازت الدورية طريق وادي أم علي في مزارع «مشيك»، وبلدة السعيدة، إلى أن وصلت إلى طريق العلّاق، الذي يبعد حوالى ثلاثة كيلومترات عن سهل بوداي، حيث وقعت أولى المواجهات».
عند الثالثة والنصف، صباح التاسع عشر، وتحديداً عند «العلّاق»، خرق «تكتيك» فرقة النخبة الإسرائيلية اعتراض أحد الأشخاص للموكب، قيل بأنّه راع، فبادر أحد الجنود إلى إلقاء التحيّة» عليه، غير أنّ اللغة لم تسعفه، وبدت «السلام عليكم مكسّرة وأقرب إلى اللكنة الفلسطينيّة». حاولت بعدها الدورية الفرار وتخطّي «الراعي» من دون إطلاق النار عليه، ولكن «السلام عليكم» هذه لم تكن لترضيه، فسارع إلى إطلاق النار، مستنهضاً المجموعات في المنطقة التي بدأت أيضاً تطلق النار على موقع الدورية.
في هذه الأثناء، كان علي لا يزال في أرضه مشغولاً في ريّها، غير أنّ ما لم يكن في الحسبان أن يبدأ علي وشقيقه في «احتساب اللحظات الباقية من العمر». تركا أرضهما، واختبآ بين سنابل قمح «الجيران»، وبدآ بالمراقبة. يقول علي: «لمحت ضوءاً على أوّل العلّاق، وسيّارة مسرعة تشقّ الرصاص وتتقدّم باتّجاهنا إلى السهل». هنا بدأ علي وشقيقه يستشعران الموت، بعدما باتت السيّارة قريبة «حوالى 600 متر من المكان، فقلت لشقيقي أطفئ الهائف وضعه جانباً وانبطح».
بدأت السيّارة تقترب شيئاً فشيئاً، حتّى باتت الأصوات على «مرمى حجر من مكاننا». وما بين الرصاص والعويل والقذائف وقصف الطائرات التي زنّرت مكان وجود الدوريّة بالنار، تلمّس علي شقيقه القابع إلى جانبه، وأردف قائلاً له «تشهّد نحنا مستشهدين»، فكان يشعر بالدقيقة التي تمرّ من دون «رهبة الموت» وكأنّها «ربح، أحسسنا بأنّنا نعيش بدل ضايع».
خمس وأربعون دقيقة حسمت الموقف. فبين الهرب وسط النيران و«التسليم بالقضاء والقدر»، أسلم الشقيقان حياتهما للأمر الواقع وللطائرات التي قامت بعد نصف ساعة من المواجهات بتمشيط المنطقة المحيطة بالدورية، «سهلاً وطرقات وأبنية ومنها مسجد بوداي الذي سوّته بالأرض». وخلال فترة المواجهات بين الجانبين، سمع علي بالقرب من «القمحات»، «صراخ شخص منهم وعجقة وطبشة باب سيّارة، وكلام غير مفهوم ولكنّه لا يخرج عن إطار الاستغاثة والنحيب». بعد دقائق من الصراخ، بدا الصوت أكثر قوّة، «حيث نزلت المروحيّة إلى جانبنا في حقل القمح، رافقتها غارات مكثّفة للحماية»، حوالى عشر دقائق خفتت الأصوات، واختفت مع إقلاع المروحيّة».
عند الخامسة والنصف، غابت الطائرات الحربية والمروحية، فيما بقيت «أم كامل» تنجز آخر مهماتها في المراقبة قبل أن تغادر بعد ربع ساعة من «الرحيل المدوّي» للطائرات، حيث أشار علي، استناداً إلى الأصوات التي سمعها، إلى «أنّها تعدّت الثلاثين مروحيّة حربيّة، لا كما قالوا إنها ثماني فقط».
انتهت عمليّة الإنزال، وبقي علي «مرابطاً في مكانه، يراقب وشقيقه «أم كامل». بعد ربع ساعة، رفع علي رأسه إلى قريته، فوجدها مغطّاة بالضباب، أصيب للوهلة الأولى بالذعر، والتفت إلى شقيقه قائلاً: «يا خيي، دمّروا الضيعة»، قبل أن يكتشف بعدها أنّ «الله غطّى الضيعة بالغطيطة ليحمي شباب الحزب».
وقبل العودة، توجّه الشقيقان إلى مكان «الإنزال» للاطّلاع على الأضرار، فوجدا على الأرض، وسط حقل القمح، بقعاً كبيرة من الدماء وبعض الضمادات الطبية والحقن وأنابيب للتنفّس و«مورفين» لتخدير الآلام، إضافة إلى بوصلة تستعمل لإرسال إشارات للطائرات لمساعدتها على تحديد المكان وعدّة طلقات من عيار 800 ملم و«غلاف لوح شوكولا كتب عليه (انيرجي شيب)». ولفت رئيس البلدية إلى أنّه «عُثر بين الأغراض المتروكة على زر قميص جينز»، ما حدا بالأهالي إلى القول بأنّ «ثمّة عميلاً كان برفقة الجنود العشرة».
عاد علي إلى الضيعة، وسط أجواء من الحذر والنشوة في الوقت نفسه «بعد هزيمة فريق النخبة»، غير أنّ المفاجأة الثانية في غضون ساعة كانت الخبر الذي أعلنته إسرائيل عن أنّها استهدفت خلال الإنزال ثلاثة من كوادر حزب الله «عملونا كوادر، ونحنا كنا عم نسقي، كيف كوادر وأنا شيف مطبخ بمطعم أوتار في بيروت وشقيقي لا يزال طالباً؟». عقب ساعات من الخبر الإسرائيلي، «وصل الخبر من الضيعة أنّ كلب بيت أبو محمد وقع ضحيّة أم كامل».




غربي بعلبك ـــ رامح حميّة

الشيخ محمّد يزبك لم يغادر البلدة وكان على مقربة من المعركة

التقت «الأخبار» ابن بلدة بوداي، الشيخ محمد يزبك، عضو شورى حزب الله، الذي استذكر حادثة الإنزال في بلدته، معتبراً «أنّ الإنزال أتى بعد الهزيمة النكراء التي تعرّض لها العدو الإسرائيلي، خلال الثلاثة والثلاثين يوماً، إذ لم يحقق خلالها أي شيء يذكر، فما كان منه إلا أن سعى عبر عملية أمنية خاصة إلى التأسيس لمكسب كبير يحفظ له بعضاً من ماء وجهه».
الشيخ يزبك لم ينفِ، كما لم يؤكد، فرضيّة أنه الهدف الرئيسي للعملية، بل أجاب ممازحاً: «لا بدّ من الاستفسار عن نيّة العدو الإسرائيلي»، إلا أنه استطرد قائلاً: «يومها كنت في بلدتي بوداي، والظاهر من حركتهم (إنزالهم في السلسلة الغربية، وتوجههم الى سهل البلدة وعلى مقربة من مجمع المرتضى) أنهم كانوا ينوون تحقيق مكسب على صعيد قيادي». وأكد الشيخ «أنه لم يغادر البلدة، وكان على مقربة من المعركة التي دارت بين المجاهدين وفرقة الكوماندوس التي منيت بالفشل الذريع».
وأوضح الشيخ يزبك «أن إطاحة الإنزال لم تكن وليدة الصدفة أبدا»، ذلك أن المقاومين خلال تلك الفترة كانوا في أقصى درجات الاستنفار والجهوزية، إذ تم «توزيعهم على مجموعات نصبوا خلالها الكمين تلو الكمين للعدو». وتابع قائلاً: «إن معركة دارت رحاها أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، سقط فيها قائد الفرقة وأحد جنوده، وجرح الآخرون، في حين أن الشباب والحمد لله لم يصب أيّ منهم بخدش».
وعن العملية، يتحدث أحد المقاومين الذين شاركوا في التصدي لها كيف تبيّن لهم، نتيجة أعمال الرصد والمراقبة، أن إنزالاً حصل في أعالي جرود السلسلة الغربية (بتدعي) وذلك قبل يوم واحد من إنزال بعلبك، وأن سيارتين قد جالتا ما بين سهل بوداي وحوش بردى، وتمكنت المروحيات الإسرائيلية من سحبهما بسرعة من السهل مباشرة، لذلك بدأنا بأخذ الاحتياطات اللازمة في البلدة. أما معالم الإنزال في بوداي، فقد بدأ بتحليق مكثف لطائرات الاستطلاع طوال نهار الجمعة، ولتتحول عند الساعة التاسعة مساءً الى غارات وهمية من الطائرات الحربية الإسرائيلية على طول منطقة غربي بعلبك. وقد عدّت هذه الغارات بمثابة تغطية للمروحيات التي أنزلت سيارتين في مرتفعات السلسلة الغربية (أفقا)، ما دفع الشباب الى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجهيز الكمائن المحكمة.
بدأ الرصد لسيارتي الجيب من مرتفعات أفقا عندما تحركتا عند الساعة الواحدة والنصف من فجر السبت 19 آب، لتسلكا إحدى طرقات مزارع بيت مشيك ومن ثم الى بلدة السعيدة، ولتتابعا توغلهما باتجاه سهل بوداي. وعند وصولهما الى الكمين الأول، توقفت السيارة الأولى عند أحد العناصر، وتكلم السائق بلكنة عربية ثقيلة «السلام عليكم». فبادر الشاب الى إطلاق النار على السائق ومن بجانبه ومن مسافة قريبة جداً. وعندما انطلقت السيارة، سارع العنصر الثاني الى فتح النار باتجاه السيارتين اللتين سارعتا الى الدخول في حقول القمح المنتشرة في
السهل.
لم يمر وقت طويل، حتى أدرك أفراد الفرقة أنهم أضحوا بين فكّي المقاومة، ولا مجال لمتابعة العملية، وبات من الضروري الاستنجاد وطلب المساعدة بقصد انتشالهم وسحبهم. فتدخّلت قرابة الساعة 3:40 صباحاً طائرتان حربيتان لتقصفا محوّلاً كهربائياً يغذّي البلدة، فيما تولّت المروحيات شنّ هجمات بعشرات الصواريخ على الطرقات المؤدية الى الحقول التي من المفترض أن أعضاء الفرقة متواجدون
فيها.


اجزاء ملف "ما الذي تعنيه أزمتا لبنان وغزّة بالنسبة إلى السياسة الأميركية؟":
الجزء الأول | الجزء الثاني