فاتن الحاج

التحق سبعة طلّاب من المدرسة الثانوية للصم، في العام الدراسي الماضي، بالجامعات، في خطوة هي الأولى من نوعها على طريق الدمج الفعلي مع أقرانهم «السامعين». الطلاب تحدثوا عن تجربتهم في التفاعل مع مجتمعهم الجديد وإحداث التغيير فيه

يراقب حبيب فواز حركات الشفاه لفهم ما يقصده الآخرون، لكونه يتحدّر من أسرة يعاني معظم أفرادها الصمم. يركّز على تعابير الوجه كمدخل للتواصل مع أي مجتمع جديد. ومع أنّ جامعة سيدة اللويزة (NDU) لم تكن تجربة حبيب الأولى مع الطلاب العاديين، فالاختلاط لم يكن سهلاً في البداية حيث إنّ عبارة «ما بيسمع وصار بالجامعة!» هي أكثر ما يرنّ في أذنيه. وجلّ ما كان يزعج حبيب أنّ يلقي أحدهم التحية عليه ويمضي من دون أن يتفاعل معه بملامحه وجوارحه. لكنّ حبيب يؤكد أنّ تصميمه على التعلّم أعانه على تخطي هذه العقبات، و«استطعتُ أن أقنع أساتذتي بقدراتي، فعمدوا إلى تغيير طريقة التخاطب وراحوا يتحدثون إليّ ببطء ويشرحون لي الدروس التي لا أفهمها في ساعات الفراغ». أما الطلاب فتقرّبوا منه تدريجياً «حتى غدا البعض يسألني عن لغة الإشارة التي أتحدث فيها، وكنت أؤكد لهم باستمرار أنني أملك العقل والقلب والإبداع، والفرق الوحيد هو السمع». وعن العلاقات التي نسجها في الجامعة، يقول حبيب: «لا أعيش علاقة حب، لكنني كوّنت صداقات كثيرة مع الشباب والبنات».
اختار حبيب اختصاص الغرافيك ديزاين الذي سبق أن درسه في معهد الكفاءات حيث اختبر للمرة الأولى الاحتكاك بطلاب عاديين، قبل أن يعود إلى مجموعته الثقافية في المدرسة الثانوية للصم. غير أنّ الفرق بين المدرسة والجامعة «أنني في الجامعة أحدّد الأساتذة والمواد والدوام الذي أريد وهو أمر يناسب وضعي، فقد أخذت 10 وحدات دراسية (credits) في الفصل الأول و15 وحدة في الفصل الثاني. يأسف حبيب لعدم تمكنه من دراسة «Business computer»، وهو المهووس بعالم الكومبيوتر، لكون هذا المجال يركز على العلاقات العامة مع الناس ويستوجب الكثير من الاعتماد على النفس.
أما دانا الخطيب، فتشعر بالانطلاق بعد دخولها الغرافيك ديزاين في المعهد الأميركي الجامعي للعلوم والتكنولوجيا (AUST) في صيدا، واجتيازها السنة الأولى بتفوق. لم تكن دانا تتوقع أن تندمج مع رفاقها بهذه السرعة، وخصوصاً أنّها الطالبة الوحيدة الصمّاء في الجامعة، كما لم تظن يوماً أنّ يتحوّل الضياع والخوف اللذين رافقاها في بداية العام الجامعي إلى ثقة بالنفس. وتتحدث دانا كيف راحت تساعد زملاءها في مادة الرياضيات حتى إنّ معلمتها فوجئت بحيازتها في الامتحان النهائي أعلى علامة في الصف. لكنّها في هذا الإطار لا تخفي انزعاجها من عبارة «شاطرة وما بتسمع»، وما يعزيها أنّها انخرطت بقلب مفتوح في الأجواء، و«أصبح لدي أصدقاء في كل الصفوف». تحرص دانا على التأكيد «أنّها ليست متفوقة في دروسها وحسب، بل هي تتقن العزف على البيانو وتحب سماع الموسيقى».
ولعل تعلق مارتين صفير بالتاريخ والحضارات القديمة دفعها إلى اختيار اختصاص الموزاييك في الجامعة الأنطونية، بعدما نصحها أصدقاؤها بأن لا تدرس التاريخ لكونه يحتاج إلى حفظ وجهد كبير. تتوقف مارتين عند دعم الإدارة المستمر لها لجهة لفت نظر الأساتذة والطلاب والإداريين لوضعها الدقيق. لكنّها تقر بأنّها لم تكن تحتاج إلى اهتمام كبير، سوى الحديث معها ببطء. وتقول «إنني اختبرت للمرة الأولى جو الحرية في الجامعة، حيث تتمنى أن تعيش الحب وتلتقي شريك حياتها».
وإذا كان حبيب ودانا ومارتين قد التحقوا بجامعات لبنانية، فإنّ حسين ضاوي لم يجد ملاذه هنا في لبنان لكون الاختصاص الذي اختاره «computing and information technology» غير متوافر، ما جعله يحط رحاله في جامعة كامبردج في لندن. وقد كانت مهمة حسين في التواصل مضاعفة، إن لجهة اللغة واللهجات الإنكليزية المتعددة في المملكة المتحدة، أو للغة الإشارة المختلفة أيضاً، إذ تعذّر عليه حضور الصف مع طلاب صُم. والمفارقة أنّ حسين لم يلقَ تفهماً من الطلاب لوضعه، وأكثر الذين ساعدوه كانوا كباراً في السن. وهنا يقول:«لا ألوم أحداً فمعظم الطلاب أجانب وينتمون إلى ثقافات متنوعة». لكنّ حسين صادف أحد الطلاب الروس راجابوف الذي ساعده على تجاوز صعوبات كثيرة، «وأنا اشتغلت كتير على حالي، فقد كنت أسهر على الدرس حتى الثالثة صباحاً، فتجاربي السابقة علّمتني أن أنتزع الفرص لأنّ الوقت يمر بسرعة ويجب أن أستغل كل لحظة».
وبالنسبة إلى الطلاب الثلاثة الآخرين وسام قسطنطين وجاك عواد وعبد الرحمن طراد فقد التحقوا بجامعة سيدة اللويزة أيضاً. أما جلال عباس الذي تخرّج هذا العام فهو ينوي دراسة الإخراج. يذكر أنّ المدرسة الثانوية للصم احتفلت أخيراً بتخريج الطلاب، بعدما حالت الحرب دون تنظيم الحفل في الصيف الماضي. وتخللت الحفل شهادات بالطلاب قدّمها كل من مدير مكتب شؤون الطلاب في جامعة سيدة اللويزه الدكتور زياد فهد ومدير جامعة AUST صيدا الدكتور حنا الجر. وتمنّيا «لو تصبح لغة الإنسانية والثقافة والأمل عاملاً أساسياً لدى الجميع في وطننا كما هي الدافع الأساسي للطلاب المتخرجين وأهلهم».
وأكد مدير ومؤسس المدرسة الثانوية للصم الدكتور حسين اسماعيل أهمية أن يشجع الطلاب إخوتهم الصمّ الصغار حتى يصلوا إلى ما وصلوا إليه هم بمثابرتهم وتصميمهم على التعلّم. وقد رأى في هذه المناسبة بداية لتحقيق حلمه بأن ينال الشخص الأصم اللبناني حقه في التعلم كغيره من المواطنين السامعين.




لا سقف علمياً للأصمّ

قصد المدير المؤسس للمدرسة الثانوية للصمّ الدكتور حسين اسماعيل لجنة المعادلات في وزارة التربية لمعادلة شهادة الدكتوراه في الإدارة التربوية التي حصل عليها من الولايات المتحدة الأميركية. سأل أحد الموظفين في الوزارة اسماعيل: «كم كلّفتك الشهادة؟». لم يفهم اسماعيل السؤال فأجابه بـأنّه دفع ثمنها 20 دولاراً، ظناً منه بأنّ الموظف يقصد البدل الذي يدفعه المتخرّج لنيل الشهادة. لكنّ الموظف كان يغمز من قناة شراء الشهادة، لكون اسماعيل أصم ومن غير المعقول أن يكون قد نال الدكتوراه. هذه الحادثة زادت اسماعيل إصراراً على تحصيل حقوق التعلم للصم عبر تأسيس مدرسة ثانوية لكونها المفتاح للتعليم الجامعي، بعدما كان السقف العلمي في مدارس الصم الأخرى صف التاسع أساسي أو البريفيه.
بدأ اسماعيل مشواره في عام 2003 وقَبل التحدي لكون المشروع غير مربح مادياً، لكنّه يحقق حلمه في مساعدة الصم في لبنان القادرين على الوصول إلى أعلى المستويات العلمية.