جان عزيز
من حيث لم يدر ولم يقصد، فتح السجال الذي أطلقه بعض مسيحيي السلطة تجاه الجماعة الأرمنية في لبنان، جرحاً بليغاً عتيقاً، لمّا يكن قد برأ بعد. والذين لا يعرفون تاريخية الموضوع وملحقاته المتعددة، قد لا يدركون عمق النكء الحاصل. ذلك أن السياسيين والإعلاميين في لبنان، غالباً ما يتعاطون مع المسائل البنيوية وكأنها عارضة، أو كأنها من يوميات «سياساتهم السياسية»، فيما مقاربة الجماعات شأن آخر، تحكمه الذاكرة الجماعية والمتخيّل التاريخي وعوامل أخرى أكثر ثقلاً من خفّة لحظة انتخابية. فكيف إذا كان المقصود جماعة ناجية من هولوكوستها الخاص. لذلك بدا الهجوم على الجماعة الأرمنية خطأً فادحاً لأسباب كثيرة، منها ما يلامس الأسرار والخفايا.
أولاً وفي المبدأ، لأن النواة التأسيسية لخطاب المسيحيين في لبنان منذ عقود طويلة، تقوم على تكريس مبدأ التعددية، كما على مقولات احترام الآخر كما هو ـــــ لا كما نريد له أن يكون ـــــ وخصوصية الجماعة والحق في بلورة الهويات الذاتية والحق في الذاكرة والاختلاف وتقرير المصير... وغيرها من لازمات سيدة البير التي رمى فيها أصحابها كل حجر رُشقوا أو رَشقوا به. وثمّة مَن لا يزال يذكر كيف أن الجماعة الأرمنية كانت النموذج المطلوب في الداخل المسيحي نفسه، بما يسمح لأصحاب هذا الخطاب بالقول للآخرين: ها نحن نقبل لأنفسنا ما نطلبه من سوانا. ولا نرضى للآخرين ما نرفضه لذواتنا. وثمّة مَن لا يزال يذكر، كيف كانت الراحلة الكبيرة علياء الصلح، أوّل مَن عرف قيمة هذا المنطق، فطرحت المعادلة على شوفينيي المسيحيين مطلع الثمانينات: كيف تقبلون إذن بأرمنية كريم بقرادوني وترفضون عروبتي! كان هذا في زمن قريب كانت العروبة فيه شأناً مرفوضاً...
وبالتالي فإن عدم احترام الجماعة الأرمنية اليوم، في خياراتها وقراراتها كافة، يدلّ أولاً على تناقض بنيوي في الخطاب المسيحي التعددي، من نوع الدجل على الأقل.
وهناك ثانياً تلك العلاقة القديمة بين الكتائب والأرمن. منذ جوزف شادر الأمين العام الأول للحزب، حتى كريم بقرادوني، أول رئيس أرمني له، رغم الملاحظات الكثيرة الممكنة حول هاتين الصفتين للأستاذ كريم. لكن الثابت أن العلاقة بين الكتائب والأرمن ظلّت طيلة أربعين عاماً ونيّف قائمة ضمن جدلية الحب ونقيضه. الحب في زمن السلم وعكسه في زمن الحرب. وليست مصادفة ولا تفصيلاً أن يكون التحالف الكتائبي ـــــ الأرمني قد خاض آخر انتخابات قبل الأحداث سنة 1972، ليتحوّل فجأة بعد ثلاث سنوات، إلى علاقة التشكيك المكتوم والتخوين الهامس، وصولاً حتى الاحتكاك العنفي المباشر. حتى إن قلّة لا تزال تذكر تلك الصفحات السود من حصار «غيتو برج حمود»، والاشتباكات المتقطّعة، وتفجير نصب شهداء الأرمن في بكفيا وحديث عن تصفيات على طرق الحصار المضروب في حينه.
وقلّة أقل لا تزال تذكر، أن هذه العلاقة المنقلبة تحت وطأة الحرب، لم تلبث أن تفاقمت مع ظهور النضال العنفي لما سمّي «الجيش الأرمني السري» في بعض أوروبا، وخصوصاً في فرنسا سنة 1980 وهو الجناح الذي نبذه أرمن لبنان. يومها تعرضت مصالح فرنسية في «المناطق الشرقية» من بيروت لهجمات بالقنابل، فكان الرد الكتائبي قاسياً، دفاعاً عن «أمن المجتمع المسيحي»، كما عن مصالح الأم الحنون.
باختصار، ثمّة انطباع عام بأن العلاقة مع الأرمن تتّجه إلى التحالف في زمن السلم، وتنعكس في أزمنة الحرب، فهل ثمّة مَن أراد التلويح بتلك الأزمنة، عندما تحدث عن «الحساب» الآتي معهم؟ وثالثاً هناك مسألة التطور التدريجي التاريخي للجماعة الأرمنية في لبنان، لجهة هويتها المحسوسة وانتمائها الوجداني. وهذا التطور شهد مرحلة مفصلية في العقد الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً بعد نشوء دولة أرمينيا المستقلة، وما أعقب ذلك من صراعات وجودية خاضتها في ناغورني كاراباخ وغيرها. في هذه المرحلة انبعثت المشاعر القومية لدى كل أرمن العالم، واتّجهت أنظارهم وقلوبهم نحو يريفان. وصارت مشاعر كل الجاليات الأرمنية في دول العالم كافة مرتبطة بإيقاع الوطن القومي الناشئ بعد حلم قرون. ولم يلبث هذا التطور أن وصل إلى لبنان. وتزامن ذلك مع بروز ظاهرة ليفون بتروسيان في دولة أرمينيا، وانقسام الأرمن بين المؤيدين لهذا الرئيس والمعارضين له. وانتقل هذا الفرز إلى برج حمود نفسها في تلك الفترة، وسقط رئيس بلديتها في ذروة الصراع بين جناح «برو ـــــ ليفون» وجناح «أنتي ـــــ ليفون»، كمؤشر على التأثير الأرميني في هذه الجماعة اللبنانية.
غير أن الأمر لم يطل، إذ سرعان ما تبيّن لأرمن لبنان أنهم أكثر تجذّراً في لبنان وانتماءً إلى بيروت. فبعد صراع خفيّ كامن لأعوام قليلة، اختفت تلك التجاذبات، لأن لبنانية الأرمن المقيمين على هذه الأرض، انتصرت على أي انتماء سياسي أو وطني آخر. وفي هذا الوقت بالذات، جاء مَن يتهمهم في لبنانيتهم، أو في مسيحيتهم، فنُكئ الجرح. ويظل العامل الرابع، ذلك المتصل بشراكة الجماعة الأرمنية في السلطة اللبنانية. وهي الجماعة الأكثر ظلماً وفرزاً على يد قانون الحريري ـــــ كنعان. بحيث نصّب عنها ولها نواب ووزراء لم يحوزوا 5 في المئة من أصوات مَن يفترض بهم تمثيلهم. وبات جلياً أن لا سبيل لهذه الجماعة إلى استعادة شراكتها المشروعة والمتوازنة في السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلاّ عبر التحالف السياسي الذي نسجته مع ميشال عون، بدليل ما حصل عند تركيب طاولة الحوار في 2 آذار 2006، وعند المطالبة بتشكيل حكومة وحدة وطنية.
قفزاً فوق هذه العوامل كلها، جاء مَن يتّهم الأرمن خطأً وتجنّياً. فارتكب الفادح من المحظور، وفتح الجرح العتيق العميق. وهو ما يقتضي بلسمته بأي ثمن وفي أسرع وقت.