strong>إبراهيم الأمين


ماذا دار بين رايس وولش وبرّي والسنيورة؟


مضى عام على عدوان إسرائيل في تموز عام 2006، وحتى اليوم لا يزال طرفا المعادلة الداخلية يتبادلان الاتهامات حول المسؤولية السياسية عن الأخطاء التي أفاد منها العدو مباشرة، أو من خلال وكيله الدبلوماسي الأميركي. هناك الكثير من المواقف مقابل القليل من المعطيات والوقائع عمّا دار في الغرف المغلقة، وخصوصاً ما يتصل بالموقف الأميركي وتسلسله التراجعي، وكذلك حال موقف الرئيس فؤاد السنيورة بما يمثّله في تلك اللحظة من موقع سياسي ورسمي

لم تكن المقاومة الإسلامية قد أصدرت بيانها عن نجاح مجموعاتها في أسر جنديين إسرائيليين قرب الحدود مع لبنان، حين باشرت السفارة الأميركية في بيروت الاتصالات. كان الوقت لا يزالمبكراً في العاصمة الأميركية. لكن خطوط الهاتف الساخنة لا تبقي أحداً غارقاً في نومه. والنشاط المباشر والمكثف الذي أجرته السفارة الأميركية في تل أبيب أيقظ الجميع، وتعامل بنشاط مع الناشطين أصلاً من الزملاء في بيروت.
تبلغ الرئيس فؤاد السنيورة المعلومات أول بأول من الأجهزة الأمنية ومن معاونين. كان سؤاله الأول عن ردة فعل إسرائيل. لم يكن قليل الغضب وهو يتواصل مع أركان 14 آذار ومع المقربين في الحكومة. لكن الوقت مرّ بسرعة حين دعي الجميع الى متابعة المؤتمر الصحافي للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي أكد فيه العملية ولفت انتباه الجميع في لبنان وخارجه الى استعداد المقاومة للمواجهة، بعدما شدد على أن أبعاد العملية محصورة في انتزاع حرية الأسرى الموجودين لدى العدوتسارعت الاتصالات مع ساعات المساء. كانت الإدارة الأميركية طلبت مباشرة من الرئيس السنيورة ومن قادة 14 آذار إدانة العملية، وذلك لتجنب ردة فعل إسرائيلية. لم يكن الأمر سهلاً على فريق السلطة. لكن المخرج كان في الموقف الذي أعلنه بعد الجلسة الحكومية الوزير غازي العريضي والذي كرره الرئيس السنيورة مراراً بعد ذلك، «لم نكن على علم بما جرى ولسنا المسؤولين عنه». كان السنيورة يبرّر هذا الموقف بأنّه لتفادي مواجهة شاملة، ويقول مقرّب منه ربما كان هناك احتمال بعدم شنّ إسرائيل حرباً لو أن حزب الله قبل بعد ذلك تسليم الأسيرين للحكومة وترك أمر مبادلتهما بالأسرى اللبنانيين الى الرئيس السنيورة. لكن المقرب نفسه الذي يكره حزب الله ولا يعارضه فحسب، كان يعرف أن الأمر أكبر من ذلك، وأن الحديث يدور عن أمر كبير في طريقه الى لبنان.
14 آذار والاستعداد للحصاد
ومع أن فريق 14 آذار، وفي واجهته الرئيس السنيورة، أطلق ما يكفي من المواقف غير الراضية عن عملية المقاومة، إلا أن كل هؤلاء كانوا في انتظار كلمة السرّ الآتية هذه المرّة مباشرة من السعودية: «إنّها مغامرة غير محسوبة تعرّض لبنان للخطر»، كانت هذه العبارة كافية لإطلاق العنان لكلّ ما تلاها من مواقف وتحرّكات، ليتبيّن لاحقاً أنّ الإدارة الأميركية كانت على صلة بكل بيان وبكل موقف، حتّى قبل وصول وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وبعد ساعات قليلة على قصف العدو مطار بيروت الدولي، جاءت الإشارة العملانية إلى أن شيئاً كبيراً سوف يحصل، من السعودية نفسها عندما صدرت أوامر إخلاء السفارة وإجلاء الرعايا مباشرة عن طريق دمشق.
ويروي مرجع سياسي بارز أن بعض قادة 14 آذار لم يخفوا ما في صدورهم وما في جعبتهم، إذ سارع النائب السابق فارس سعيد الى إبلاغ مساعدين للعماد ميشال عون بأنّ فترة السماح انقضت، وأنّ ساعة الحساب اقتربت، وأنّ ما سوف يحصل سيعيد ترتيب الأمور بطريقة مختلفة. لم يكن سعيد يجتهد أو يحلّل، بل كان يردّد ما قاله في ذلك اليوم النائب وليد جنبلاط لزوّاره، ومن بينهم إعلاميّون: إنّ ما حصل من قبل حزب الله سوف يفتح نار جهنّم عليه، ولن يكون بمقدور أحد مساعدته، وسوف يدفع هو وكلّ من يحالفه، وحتى النظام السوري، الثمن باهظاً. سارع جنبلاط إلى تهدئة جمهوره المتوتّر أصلاً، وطلب إليهم الاستعداد لاستقبال النازحين. وكلما كانت العمليات الحربية تشتدّ، كان فريق 14 آذار يرفع من سقف تضامنه الإنساني مع أبناء الجنوب، ويرفع من سقف حملاته السياسية الانتقادية.
سعد الحريري نفسه سارع إلى التلويح بأنّ الحساب آتٍ بعد توقّف الحرب. كان الرجل شديد الوثوق من أنّ المقاومة سوف تدفع ثمن فعلتها على يد إسرائيل أوّلاً، ومن ثمّ على يد بقية اللبنانيين. وهو لم يخفِ في اتّصالاته مع شخصيات وصحافيين لبنانيين توقّعه حصول تطوّرات كثيرة في أيّام قليلة.
وخلال الأيّام الأولى للحرب، كان الحريري محتفظاً بخط الاتصال المباشر مع قيادة حزب الله. وأبلغ قيادة الحزب بأنّ الأمور سوف تكون أصعب إذا لم تحصل مبادرة سريعة من خلال تسليم الأسيرين إلى الرئيس السنيورة. وأصرّ على طلبه ملمّحاً في أحد الاتّصالات إلى أنّ الخطوة سوف تسمح بتخفيف الضغط، إن لم توقف الحرب نهائياً.
رايس... غير مستعجلة
وحده الرئيس السنيورة لم يكن يتصرف من تلقاء نفسه. كان هاتفه لا يتوقف عن العمل. تواصل مع كل من وصل إليه من قادة العالم أو المؤثرين في القرار. وكان في كلّ مرّة ينهي فيها اتصالاً، يزداد غضباً: ليس في العالم من يقف معنا، على حزب الله أن يبادر فوراً إلى تسليم الأسيرين، ولن يكون هناك أيّ كلام قبل هذه الخطوة.
شعر السنيورة بأنّ الأمر سيطول. اتصالاته المتتالية بوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، وما كان يتلقّاه من السفارة الأميركية في بيروت، كان يُختصر بما مفاده: لسنا مستعجلين على أي خطوة قبل حصول أمرين: أن تقول اسرائيل أنها حققت وضعاً ميدانياً يتيح لها التفاوض براحة، وأن يبادر حزب الله الى تقديم إشارات الاستسلام من خلال نقل الجنديين الأسيرين الى مكتب رئيس الحكومة.
لم يكن كافياً إطلاق مجلس الوزراء موقفاً يسحب فيه الغطاء عن عملية المقاومة. كان الأميركيون يرون في الأمر تحصيل حاصل، وأن المطلوب الآن العمل على منع تكرار الأمر من خلال القبول بآليات تؤدي الى سحب سلاح حزب الله. لم يكن فريق 14 آذار ممانعاً، لكنّه كان يرى في الأمر مشكلة، وكان يريد من الخارج مساعدته على ذلك.
كانت الجبهة لا تزال مشتعلة. السنيورة والفريق الحاكم يعتقدون أنّ المقاومة في حالة تراجع، وأنّ الجيش الاسرائيلي يتقدم نحو تحقيق نصر حاسم، فيما تشير المداولات الجارية في الأمم المتحدة وفي عواصم القرار إلى أنّ لإسرائيل الحق في أخذ الوقت الكافي لإنجاز المهمّة.
انتقل السنيورة، بدوره، إلى فكرة «الحلّ الشامل». كان يشرح وجهة نظره بأنّه طالما حصل ما حصل، فإنّه لا يمكن العودة إلى ما كنّا عليه قبل 12 تموز. كان يتحدّث عن ضرورة إنجاز ترتيبات تمنع تكرار الأمر. وكان يشرح بصراحة: لم نعد نقدر أن يبقى حزب الله حرّاً في خطواته هذه. سلاحه لم يعد محلّ إجماع وطني. وهو يقدم على خطوات لا علاقة لها بلبنان، بل باستراتيجيا خارجية، ولسنا لنقبل بأن يحصل وقف لإطلاق النار من دون التوصّل إلى حلّ شامل: انسحاب اسرائيلي من شبعا وإطلاق المعتقلين والعودة الى اتفاقية الهدنة مقابل سحب سلاح المقاومة وحل البنى العسكرية والأمنية التابعة لحزب الله، على أن تتولّى قوات دولية، الى جانب الجيش اللبناني، تنفيذ هذا الأمر. كانت هذه فلسفة السنيورة التي مهّدت لاحقاً لفكرة النقاط السبع.
«الفهدة» في بيروت
تهبط المروحيّة الأميركيّة التابعة لقوات البحرية المارينز في لبنان، ومنها تنتقل الوزيرة رايس ومساعدها دايفيد ولش وأعضاء آخرون في وفدها الى مجموعة اللقاءات المعدة لها. اليوم هو 24 تموز 2006، وفيه تمهّد اسرائيل لمعركة في بنت جبيل تطيح أية مفاعيل سياسية يمكن ان تحملها رايس في زيارتها تل أبيب، ويفترض بهذه المعركة البرية في بنت جبيل أن تسهّل ممارسة رايس ضغوطاً على المفاوض اللبناني، وتحديداً على مفاوض المقاومة المكلّف من حزب الله التحدّث باسمه، الرئيس نبيه بري. ويفترض أيضاً أن تحوّل كثافة النار في الجنوب الكلامَ إلى وجهة تأكيد تكريس انتصارات عسكرية إسرائيلية تحقّقت (أو يفترض رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه سيحقّقها) يوم 25 تموز في الميدان العسكري، وهو اليوم الذي ستصل فيه رايس الى تل أبيب. ولن تُكرّس هذه الانتصارات المأمول حصولها إلا عبر تحقيق كل المطالب الإسرائيلية.
قبل وصولها الى بيروت وهي على متن الطائرة التي أقلّتها الى قبرص، تؤكّد رايس للصحافيين موقفاً متشدداً، تنقله كل وسائل الإعلام: لا بد من استخدام اتفاق الطائف والقرار الدولي الرقم 1559 لتحقيق السلام في لبنان، وهي تشير صراحة الى نزع سلاح حزب الله وانتشار الجيش اللبناني على كل الأراضي اللبنانية. وربطت رايس بشكل مباشر بين وقف إطلاق النار وإيجاد الأسباب لديمومته، ومنها إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين لدى حزب الله.
وفي بيروت كان الرئيس السنيورة من بين قلّة تتوقّع وتعلم بزيارة رايس، وهي كانت حادثته يوم 23 تموز هاتفياً، فيما باقي القوى والأطراف اللبنانية لم تعلم بالزيارة حتى إعلانها في وسائل الإعلام. وكان في استقبال رايس وزير الخارجية فوزي صلوخ، وانتقلا معاً لتبدأ المباحثات عند الساعة الثانية وعشر دقائق بين رايس والوفد المرافق لها، والسنيورة وفريقه الذي ضم، إضافة الى وزير الخارجية، المستشار محمد شطح وعدداً من المختصين، وانتهت عند الرابعة وعشر دقائق. غادرت رايس السرايا من دون الإدلاء بأي تصريح، إلا أنها أطلقت لاحقاً تصريحاً مقتضباً عن قلقها «على الوضع الإنساني في لبنان»، أُذيع مباشرة قبيل وصولها الى منزل رئيس مجلس النواب.
قالت رايس خلال الاجتماع إن العالم يقف الى جانب لبنان وحكومته، ولكنّ توقف الحرب يتطلب تنفيذاً فورياً للقرارات الدولية، وخصوصاً القرار 1559: عليكم الاستعداد لنشر قوات دولية جديدة على طول الحدود مع إسرائيل، ونشر قوات كبيرة من الجيش اللبناني هناك، ونزع سلاح حزب الله.
وعندما تحدث السنيورة عن الجرائم التي ترتكب وضرورة الضغط على اسرائيل لوقف إطلاق النار، كان لا يخفي في الآن نفسه موقفه من «الحل الشامل»، فتحدّث عن إخلاء مزارع شبعا، وعن الاستعداد للعودة الى اتفاقية الهدنة مع نقاش جديد لبنودها.
في عين التينةدخلت رايس وكان برفقتها مساعدها ديفيد ولش والسفير في بيروت جيفري فيلتمان وآخرون. وهي باشرت عرض «سلة
شروطها»:
1 ـــــ حل حزب الله وإنهاء كل أشكال وجوده العسكري والمدني والمؤسساتي جنوبي نهر الليطاني.
2 ـــــ يُجدّد عمل قوات الطوارئ لشهر واحد، وتُرسل وحدات من القوات المتعددة الجنسيات الى المنطقة برفقة آلاف من عناصر الجيش اللبناني.
3 ـــــ يُعلن وقف للعمليات العسكرية خلال هذه المدة، وبعد فرض الأمن يعود النازحون الى بلداتهم.
لم يكن نبيه بري القلِق بحاجة إلى من يغضبه، حيث كان بادياً عليه، منذ لحظة استقباله رايس، أنه غير منشرح، وهو ردّ سريعاً على رايس: «هذا ليس مشروعاً للحل، بل مشروع لتخريب البلاد. ولن يكون هناك أي مجال للحل إلا بعد وقف تام لإطلاق النار وعودة فورية للنازحين، وبعدها ينتشر الجيش بمساعدة قوات الطوارئ وحدها. وأنا أضمن عندها ان يحصل التبادل ويُطلق الجنديان الاسرائيليان مقابل إطلاق سراح المعتقلين اللبنانيين».
إلا أن رايس أجابت بسرعة: لسنا هنا في معرض بحث ملف الأسيرين.
ولم يفوّت بري الفرصة لتأكيد الطروحات والمطالب اللبنانية قائلاً: «وماذا عن مزارع شبعا المحتلة».
رايس: هناك حل لهابري: لم أفهم كيف يتم الأمر.
رايس: هناك حل، ولكن ما طرحته لا ينجح (مشيرة الى طرح بري حول وقف النار وقوات الطوارئ وعودة المهجرين).
بيد أن بري الذي يعرف أن ما تطرحه رايس لن يمر في لبنان، توجه بحديثه الى السفير جيفري فيلتمان الذي كان ضمن الوفد المرافق: سيد جيف، أنت تعرف لبنان، هل تعتقد أن ما طرحته وزيرة الخارجية قابل للحياة؟
لم يجب الأخير، وتابع بري متحدثاً إلى رايس: «هل تعتقدين أن أموراً كهذه يمكن ان تحصل من دون كلام مباشر مع سوريا وإيران؟».
رايس: نحن لا نتكلم مع سوريا، ربما هناك أصدقاء لنا يقومون بهذه المهمة.
يقف بري متجولاً في الغرفة، ويظهر لضيفته القدر الكبير من الغضب. ولا تلبث رايس أن تقول: «اسمع دولة الرئيس، هل تريد ان تساعدنا على حل المشكلة أم ماذا؟ الكل يريد التخلص من سلاح حزب الله، والعالم كله يقف الى جانبنا، بما فيه الحكومات العربية».
يلتفت إليها بري: «ربما كان ما تنسبينه الى الحكومات صحيحاً، ولكن هل تعرفين أن رأي الشعوب العربية مخالف تماماً؟ الناس يرون في حزب الله الآن رمزاً لكرامتهم، والسيد نصر الله اليوم له حضور يضاهي حضور جمال عبد الناصر لدى الجمهور العربي».
تبدو الأجواء أكثر توتراً. تلتفت رايس الى مساعديها وتقف مستعدة للخروج. تجري مصافحة باردة مع ابتسامات لا توحي بشيء. وأثناء الخروج من مقر عين التينة، يقترب ديفيد ولش من مسؤول العلاقات الخارجية في حركة أمل علي حمدان ويقول له بصوت خافت: «اسمع، ربما لم يتبلّغ الرئيس الرسالة بوضوح. يجب أن ننهي هذه المسألة، وقل له إن ملف مزارع شبعا سوف يكون ضمن سلة الحل».
غادرت رايس متوجهة الى مقر السفارة الأميركية في عوكر. وعلى الطريق تحدثت مع السنيورة، وأبلغته بأنه يجب العمل بقوة على الرئيس بري، وعدم التوقف عن الضغط عليه لأجل القبول بالشروط، وإلا فإنّ الحرب سوف تستمر وسوف تعنف.
لفت السنيورة انتباه المسؤولة الأميركية الى ان الحل الشامل يفترض علاجاً للمسألة من أساسها. أعطت رايس إشارة إلى أنها لم تستوعب، فردّ السنيورة: يجب أن ننزع كل ذريعة. يجب العمل بقوة على ملف مزارع شبعا، وهي مسألة حساسة بالنسبة إلى الرئيس بري. وطلب إليها إبلاغه موقفاً واضحاً في هذا الشأن. وافقت رايس وطلبت من السنيورة تولّي هذه المهمة.
بعد نصف ساعة، اتصل رئيس الحكومة برئيس المجلس النيابي قائلاً: يبدو أن هناك التباساً في شرح الوزيرة الأميركية. أنا متأكد من أن ملف مزارع شبعا سوف يكون ضمن الحل الشامل.
استسلام... لطيف1ـــــ توجه الحكومة نداءً الى الحزب لتسليمها الأسيرين الإسرائيليين.
2ـــــ تعلن الحكومة أن الأسيرين صارا بحوزتها، فيتم إعلان وقف لإطلاق النار وفك الحصار البحري والجوي والبري.
3ـــــ تبدأ فوراً مفاوضات سريعة ومكثفة لتبادل الأسرى والمعتقلين بين إسرائيل والحكومة اللبنانية.
4ـــــ يباشر عناصر حزب الله الانسحاب الى خلف نهر الليطاني.
5ـــــ تباشر إسرائيل الانسحاب من مزارع شبعا وتتوقف عن أي نوع من الخروق للسيادة اللبنانية.
6ـــــ يتم إرسال قوات كبيرة من الجيش اللبناني الى المنطقة الجنوبية، ويصدر قرار في مجلس الامن بتعزيز قوات اليونيفيل وتفعيل عملها في تلك المنطقة.
7ـــــ يعلن لبنان وإسرائيل العودة الى اتفاقية الهدنة الموقعة عام 1949 ويفتح نقاش حول البنود الواردة فيه مع انفتاح على تعديل ما يجب تعديله.
يستمع بري الى رئيس الحكومة الذي يلفته إلى انه مضطر خلال 3 ساعات الى السفر متوجهاً الى روما، وهو يريد جواباً سريعاً. يقول له بري إنه سوف يشاور قيادة حزب الله ويبلغه بالجواب. يخرج رئيس الحكومة من عين التينة، وبري يزداد غضباً. فيرسل على الفور الأفكار التي حملها رئيس الحكومة الى الحاج حسين الخليل الذي كان وسيطاً بينه وبين السيد حسن نصر الله.
لم يمض الوقت الطويل حتى يتسلم الأخير الأفكار، وما إن اطلع عليها حتى عمد فوراً الى تحديد الرد، وبعث به الى الرئيس بري وفيه:
1ـــــ يتم الاعلان فوراً عن وقف لإطلاق النار ومباشرة إسرائيل الانسحاب الى خلف الحدود الدولية.
2ـــــ إن المقاومة لا تمانع في انتشار سريع للجيش اللبناني جنوبي وشمالي النهر، وفي أي مكان يريده.
3ـــــ يقر الحزب بوقف كل أشكال الوجود العسكري العلني. وتُحدَّد مهمة أي قوة إضافية لقوات الطوارئ ضمن آليات تمنع عليها القيام بأعمال تفيد إسرائيل.
4ـــــ إن الأسيرين لن يخرجا من يد المقاومة، ويمكن تكرار تجربة التفاوض السابقة على أشلاء لجنود من العدو حين تولى الرئيس الراحل رفيق الحريري الأمر، من خلال إطار تفاوض تم الاتفاق عليه مع الحزب، وجرت الأمور يومها بسهولة وتم التوصل الى حل.
وأبلغ نصر الله بري عبر الحاج حسين خليل بأن هناك من يريد وضع الشروط بطريقة تجر البلاد الى حرب داخلية، وهو أمر لن يحصل. ولتستمر الحرب مع العدو الى أبد الآبدين.
استراتيجية المقاومة
لم يكن بري يتوقع جواباً مختلفاً. وهو استعاد في هذه اللحظة دقة الأوضاع، وكذلك النقاش الإضافي مع قيادة حزب الله الذي مهّد لوضع «استراتيجية المقاومة» خلال التفاوض، وتقوم على الآتي:
1ـــــ رفض البحث نهائياً في أي فكرة تقول بإرسال قوات متعددة الجنسيات الى لبنان، ومنع أي نقاش حول اللجوء الى الفصل السابع في أي قرار دولي جديد.
2ـــــ موضوع الأسرى لن يحل إلا من خلال تفاوض غير مباشر وآلية تبادل كالتي يعرفها الجميع.
3ـــــ الجيش اللبناني موضع ترحيب في أي وقت وفي أي مكان. وتوفر له كل انواع المساعدة بما في ذلك المساعدة اللوجستية.
4ـــــ لا مانع من تعزيز عناصر قوات الطوارئ الدولية ولكن من دون أي تعديل لمهامها.
5ـــــ لا مجال لأي نوع من وقف إطلاق النار ما دام هناك جنود للعدو على الاراضي اللبنانية. وأقل ما يمكن القبول به هو العودة الى الوضع الذي كان قائماً قبل 12 تموز.
6ـــــ رفض وقف إطلاق النار على مراحل. وضمان عودة فورية وكاملة لكل النازحين الى قراهم وبلداتهم دون أي تأخير.
7ـــــ رفض أي نقاش أو أي تعهد شفهي أو خلافه أو أي نص يتناول سلاح المقاومة، واعتبار الأمر محصوراً في أيدي القوى اللبنانية حصراً.
8ـــــ تنظم المقاومة بنفسها حركة رجالها في أي منطقة. ولا يمكن القبول بأي آليات من شأنها التدخل في هذا الأمر. ولا مجال لأي نوع من التفاوض حول هذه المسألة.
9ـــــ على المجتمع الدولي إقناع إسرائيل بالخروج الفوري من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. ويُرفض أي نوع من البحث الذي يقود الى وضعها تحت الوصاية الدولية.
10ـــــ التزام الحكومة والرئيس السنيورة بتحرك عاجل عربي ودولي من أجل إلزام إسرائيل تحمّل مسؤولية الدمار الذي حصل، وإجبارها على دفع التعويضات كاملة.
بادرة دعم للسنيورة
في هذه الأثناء، كان مصدر أميركي مرافق لرايس في زيارتها يتحدث عن أن هذه الزيارة «تشكل بادرة مهمة من رايس لإعلان دعمها للشعب اللبناني وحكومة السنيورة»، بينما كان رئيس الوزراء البريطاني حينها طوني بلير يصرّح بـ«أن ما يحصل في لبنان كارثة ستسيء إلى البلد وتضعف ديموقراطيته».
غادرت رايس بيروت مساء الاثنين في مروحية عسكرية أميركية متوجهة الى قبرص مجدداً حيث ستنتقل منها الى تل أبيب. وسمح رئيس مجلس النواب، الذي تنوعت أسباب غضبه، لمصدر مقرّب منه بالتسريب الى وسائل الإعلام أنه «لم يحصل اتفاق» مع وزيرة الخارجية الاميركية على الطروحات التي تقدمت بها. وقالت المصادر «لم يحصل اتفاق بين الطرفين بسبب إصرار رايس على أن تكون كل عناصر الحل في سلة واحدة». وأضافت «لقد رهنت وقف إطلاق النار بنشر قوة دولية عند الحدود مع إسرائيل وبأن لا يكون لسلاح حزب الله وجود جنوبي نهر الليطاني وبأن تتم عودة النازحين لاحقاً».
صدرت الصحف اللبنانية في اليوم التالي تحمل العناوين المتشائمة. «النهار» قالت في عناوين صفحتها الاولى: لقاء سلبي لرايس مع بري، والسنيورة يطرح الثوابت ويرأس الوفد الى مؤتمر روما، «سلة رايس»: جنوبي الليطاني منطقة عازلة وقوات دولية.
النقاط السبع
كان السنيورة قد سافر الى روما. انتقل من بيروت إلى قبرص بالمروحية. لم تنفع كل الوساطات في فتح ممرّات آمنة للسفر ولمواد الإغاثة. وكانت رايس قد وعدت بتسهيلات في هذا الشأن دون نتائج مهمة. وفي الطائرة التي أقلّته من قبرص، كان الوزير فوزي صلوخ يراجع مع السنيورة الأوراق المبعثرة أمام رئيس الحكومة حول النقاط التي طرحتها رايس، والنقاط التي أبلغها بري للسنيورة. وفي السادس والعشرين من شهر تموز، أطلق الرئيس فؤاد السنيورة في افتتاح مؤتمر روما مبادرة ما سيعرف لاحقاً باسم النقاط السبع.
... وجلسة النقاط السبع
وفي 27 تموز، عقدت جلسة في مقر مجلس الوزراء المؤقت برئاسة الرئيس إميل لحود وبحضور السنيورة، جرت خلالها مناقشة النقاط السبع، وما تم من اتصالات في مؤتمر روما. وتم الاتفاق على أنّ ما طرحه السنيورة هناك هو «عناوين عامة، وعندما تطرح بالتفصيل فإنّها ستناقش في مجلس الوزراء، وهو من سيتخذ القرار المناسب
بشأنها».
طلب الوزير محمد فنيش الكلام. وأبدى ملاحظات تضمّنت التأكيد على أن ما هو معروض الآن لا يمثّل قراراً رسمياً صادراً عن الحكومة، بل مجرد أفكار قابلة للنقاش بنداً بنداً. سجّل ذلك في المحضر، ثمّ دارت مناقشات حادّة قبل أن يتدخل الرئيس لحود: اسمعوا، سوف ننقسم هنا، ونخرج من دون اتفاق، وسيؤثر ذلك على صورة الموقف اللبناني، فيما العدو يواصل الحرب. لنتّفق على موقف موحد. ثم كان الاتفاق بأن الأمر يبت نهائياً في وقت لاحق. وانتهت الجلسة بإعلان وزير الاعلام غازي العريضي المقررات الرسمية، وتأكيده على وحدة الحكومة والموقف الوطني في مواجهة الحرب التي تشنّها إسرائيل على لبنان.
التقى بري في إطار متابعته لمؤتمر روما الرئيس السنيورة. وقال بري «إن مؤتمر روما قد فشل»، وإن «مقياس نجاح مؤتمر روما كان يدور حول نقطة معينة وهي: هل ينجح المؤتمر في الوصول الى وقف إطلاق النار، وما لم يصل الى هذا الامر فمعنى ذلك الفشل».
بري في الميدان
في هذه الأثناء، شعر بري بأن فريق السنيورة والأميركيين لا يريدون أي حل. هم يريدون فقط الضغط. وهو بات رافضاً لمجاراتهم: «سكرت معي، اذهب أنت وفاوضهم، لن أتحدث معهم بعد اليوم». هذا ما أبلغه بري الى الحاج حسين الخليل الذي رد بأن القرار في الحزب هو أن التفاوض يتم فقط عبر الرئيس بري، وأن كل من يتصل يسمع هذا الجواب.
فجأة، يرسل بري بطلب معلومات عما يدور على الجبهة وحقيقة الوضع الميداني، ويضع السيد نصر الله في أجواء الضغوط القائمة، ما دفع بنصر الله الى خطوة سريعة:
قرابة منتصف الليل، بعد 26 تموز، يصل الحاج حسين الخليل فجأة الى عين التينة. يصعد الى ملاقاة بري في منزله لا في مكتبه. يكون الأخير في ثياب النوم. يسأله عمّا يجري، ويقول له الخليل: «أنقل لك تحيات السيّد وقيادة الحزب. وأريد أن أبلغك أن الأمور تسير وفق ما نراه مناسباً. المعارك مستمرة في الجنوب، والمجاهدون يواصلون ضرب القوات الاسرائيلية عند كل نقاط الحدود. والاشتباكات تدور على بعد أمتار قليلة. خرجت إليهم قذائف الكورنيت والدبابات تتفجر واحدة تلو الأخرى. قصف المستوطنات سوف يزداد يوماً بعد يوم، واليوم اتخذ القرار بتوسيع دائرة القصف، وسوف تقوم المقاومة بضرب أهداف جديدة في جنوبي حيفا وشمالي تل ابيب. ولن يكون هناك مكان آمن في إسرائيل. المجاهدون يسمعون صراخ الجنود الإسرائيليين وعويلهم. بدأ الارتباك يسيطر على العمل العسكري والسياسي في إسرائيل. والتخبط واضح في سلوك القيادات الميدانية. لقد تورطوا الآن في قرار الحرب البرية. لن ينجحوا في احتلال قرية واحدة. المبادرة كلها باتت بيد المقاومة.
بدأت ملامح بري تتغير. قفز وصار يهتف: من الأوّل قل لي ذلك، ردّيت لي روحي.
وتابع الخليل: الفرنسيون يضغطون للتفاوض المباشر معنا. هم يتصلون الآن بالسيد نواف الموسوي وهو يجيبهم: اذهبوا الى الرئيس بري. ممثل كوفي أنان في لبنان غير بيدرسون قصد الحاج وفيق صفا وأبلغه أن الوضع الميداني الاسرائيلي مربك للغاية، وأن التخبط بدأ يسود صفوفهم. وهو يعرض حلاً سريعاً من خلال وقف فوري لإطلاق النار يستمر مدة اسبوع، على أن تبقى الامور على حالها من حيث الانتشار، وبعدها يصار الى تحقيق الأمور الأخرى. ونحن أجبنا بأن لا وقف لإطلاق النار قبل انسحاب كامل والعودة الى ما قبل 12 تموز.
بعد هذا اللقاء، سارع بري للتأكيد عبر الإعلام العالمي أن لبنان لا يوافق على قوات دولية «لأننا لسنا بحاجة إليها»، داعياً الى نشرها في إسرائيل. ورد على سؤال عن نزع سلاح حزب الله بالقول «هم يريدون نزع سلاح حزب الله ونحن نريد نزع سلاح إسرائيل». كانت السخرية السوداء التي يطلقها بري تشير الى غضبه من ناحية، وثقته بأن المقاومة لا تزال صامدة وتملك المبادرة على الأرض. ولمن التقوا به في تلك الاثناء، كان بري يستمتع بالحديث عن صواريخ المقاومة المضادة للآليات التي بدأ حزب الله باستخدامها، وكان يصف لمحدثيه كيف أن هذه الصواريخ تنفجر أول مرة لتضرب تصفيح الآليات، والمرة الثانية لتدخل القدرة الانفجارية الى داخل الآليات الاسرائيلية.
في نهاية هذا اليوم نفسه، كانت هيئة المتابعة لقوى 14 آذار تعقد اجتماعاً لها في قريطم وتدعو فيه الى الوحدة خلف الحكومة اللبنانية «وتمليكها أوراق التفاوض كاملة» كي تستطيع انتزاع المكاسب لمصلحة لبنان.
في اليوم التالي، أي 28 تموز، كان حزب الله قد أطلق مرحلة «ما بعد حيفا» تنفيذاً لتهديد امينه العام بأن توسيع ضرب المناطق اللبنانية سيؤدي الى توسيع دائرة قصف المقاومة للمناطق الاسرائيلية، فضرب للمرة الاولى العفولة. يومها، زار السفير الأميركي فيلتمان الرئيس السنيورة لمدة ساعة، وخرج ليقول إنّ «هناك توافقاً كبيراً في الأولويات بين الحكومة اللبنانية والولايات المتحدة الأميركية»، واعداً لبنان بتدريب جنوده وتجهيزه «للوصول الى الحدود بحسب اتفاق الطائف».
في 29 تموز، تلقّى بري اتصالاً هاتفياً من جاك شيراك الذي كان قد عقد في باريس اجتماعاً مصغراً لحكومته لبحث تطورات الوضع في لبنان. وأكد شيراك لبرّي خلال الاتصال «العمل بكل إمكانات فرنسا لوقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات آمنة للمساعدات الانسانية».
وفي اليوم التالي، وصلت رايس الى إسرائيل. اتصلت بالرئيس السنيورة وأبلغته نيتها العودة الى بيروت سريعاً. التقى السنيورة السفير الإيراني محمد رضا شيباني الذي «طلب موعداً عاجلاً»، ثم عاد لتحضير زيارة رايس مع سفيرها في بيروت فيلتمان.
(الحلقة الثانية في عدد الاثنين)

النقاط السبع«وقف إطلاق نار فوري وشامل وإعلان اتفاق حول المسائل التالية:
أ ـــــ التعهد بإطلاق الأسرى والمحتجزين اللبنانيين والإسرائيليين عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
ب ـــــ انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى ما خلف الخط الأزرق وعودة النازحين إلى قراهم.
ت ـــــ التزام مجلس الأمن وضع منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت سلطة الأمم المتحدة حتى ينجز ترسيم الحدود وبسط السلطة اللبنانية على هذه الأراضي، علماً بأنها ستكون، خلال تولي الأمم المتحدة السلطة، مفتوحة أمام أصحاب الأملاك اللبنانيين. ويتعين على إسرائيل تسليم كل خرائط الألغام الباقية في جنوب لبنان إلى الأمم المتحدة.
ث ـــــ بسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كامل أراضيها عبر انتشار قواها المسلحة الشرعية، ما سيؤدي إلى حصر السلاح والسلطة بالدولة اللبنانية، كما نص اتفاق المصالحة الوطنية في الطائف.
ج ـــــ تعزيز القوة الدولية التابعة للأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان وزيادة عديدها وعتادها وتوسيع مهماتها ونطاق عملها وفقاً للضرورة بهدف إطلاق العمل الإنساني العاجل وأعمال الإغاثة لتوفير الاستقرار والأمن في الجنوب ليتمكن النازحون من العودة إلى منازلهم.
ح ـــــ التزام الأمم المتحدة التعاون مع الفرقاء المعنيين باتخاذ الإجراءات الضرورية لإعادة العمل باتفاق الهدنة الذي وقّعه لبنان وإسرائيل عام 1949، وتوفير التزام مضمون هذا الاتفاق، إضافة إلى بحث التعديلات المحتملة عليه أو تطوير بنوده عند الضرورة.
خ ـــــ التزام المجتمع الدولي دعم لبنان على كل الأصعدة ومساعدته على مواجهة العبء الكبير الناتج من المأساة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها البلد، وخاصة في ميادين الإغاثة وإعادة الإعمار، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني».


الجزء الأول | الجزء الثاني