نقولا ناصيف
بعد انتخاب سليمان فرنجية في 17 آب 1970 رئيساً للجمهورية بفارق صوت واحد ضد منافسه الياس سركيس، قصده في أوقات متفاوتة بعض النواب وراح يمنّنه بأن صوته هو الذي مكّنه من الفوز. ردُّ الرئيس الراحل كان أنه فاز بصوته هو.
هكذا حال نتائج الانتخاب الفرعي في المتن الأحد الفائت. فاز مرشح الرئيس ميشال عون بفارق 418 صوتاً، وبات في وسع أي فريق حليف له أن يقول إنه نجح بفضله هو. وفي وسع أي بلدة يقلّ عدد مقترعيها عن 500 صوت أن تدّعي الفضل ذاته. قيل إنه الصوت الأرمني، أو الصوت الشيعي، أو الصوت القومي، أو حتى صوت المجنسين. لم يُقل عام 1970 إن انتخاب فرنجية رئيساً لا ينفي كون شعبية سركيس في مجلس النواب كانت أكبر، وإن الصوت المرجّح هو صوت السفير السوفياتي سرغار عظيموف، أو صوت كمال جنبلاط، أو ريمون إده الذي ساجل فرنجية في الصوت المرجّح. بل قيل إنها انتخابات ديموقراطية رجّح فيها الصوت الواحد الذي هو «صوت الشعب» ـــــ والعبارة لغسان تويني ـــــ الفوز لمرشح المعارضة.
لكن هذا القياس ليس هو الذي يطبع السجال الدائر حالياً. وبعد خمسة أيام على طيّ صفحة الانتخاب الفرعي في المتن، يستمر طرفاه في التعامل مع النتائج التي أسفر عنها كما لو أن المعركة الانتخابية لم تنته بعد. بل راح تشعّب الاستنتاجات والتبريرات والقراءات المتناقضة يدمجها بالاستحقاق الرئاسي قبل أكثر من شهر ونصف شهر على بدء المهلة الدستورية. وكما تسلّح عون في خوضه الانتخاب الفرعي بنظرية تمثيله الأكثرية المسيحية التي تؤهله كي يصير رئيساً للجمهورية، يتسلّح الجميل بالنظرية نفسها، وهي أنه هو الذي يمثل اليوم الأكثرية المسيحية التي تخلّت عن عون وأسقطت حظوظه في الوصول إلى انتخابات رئاسة الجمهورية.
الحقيقة أن الرجلين وقعا في فخّ الحسابات الخاطئة، لأسباب أبرزها:
1 ـــــ إن الانتخابات تقاس بنتائجها. إما رابح وإما خاسر. تالياً ليس ثمة مَن يربح مقعداً، وآخر يربح شعبية، كون الأمرين متلازمين. الشعبية تقدّم الرقم الأعلى لمن تنحاز إليه، فيفوز مَن يحصل عليه. مغزى ذلك أن وجود رابح أفضى حكماً إلى وجود خاسر. ولا تعدو الذريعة القائلة بأن خاسر المقعد ربح الشعبية كونها تعويضَ خسارة قد حصلت بالفعل. لم يقل الرؤساء صائب سلام وعبد الله اليافي وأحمد الأسعد ولا كمال جنبلاط في انتخابات 1957 إنهم خسروا المقعد وربحوا الشعبية، ولا فعل ذلك الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون إده في انتخابات 1964، ولا أكثر الزعماء شعبية عهدذاك النائب جوزف سكاف في انتخابات 1968. لم يكن لهم إلا أن يسلّموا بخسارة المقعد لتخلي مقترعين عنهم، سواء صحّ هذا التخلي، أو تلاعبت السلطة بنتائج الانتخاب. الأمر نفسه بالنسبة إلى الجميّل الذي يخوض للمرة الأولى اختباراً شخصياً ومستقلاً وضعه في قلب معركة انتخابية بلباس حداد. ورغم أنه أمضى في النيابة 12 عاماً، لم يخض إلا انتخابين، فرعي سنة 1970 خلفاً لخاله الشيخ موريس الجميل وعام سنة 1972 إلى حين انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1982. وبعد عودته من المنفى عام 2000 كان ترشّح نجله الشهيد بيار جسّ نبض في معترك انتخابي كان يتقاسمه النائبان ميشال المر ونسيب لحود. كان نجاح الجميّل الإبن، منفرداً، مفاجئاً في استقطابه أصواتاً من خارج اللائحتين المتنافستين، مستمداً فاعليته من الأب العائد. وفي انتخابات 2005 كان الجميّل، الأب والإبن، يواجهان عاصفة مذهبية تسبّبت بها الطريقة التي خاض بها حلفاؤهما انتخابات بيروت والشمال.
2 ـــــ يقع الجميّل في حفرة الأرقام التي وقع فيها عون من قبل، وهي أن الاقتراع ليس ثابتة دائمة، بل يتأثر بطبيعة التجاذب السياسي الذي يصدف عبوره به. وهكذا أتى التصويت متعاطفاً مع الجميّل في الانتخاب الفرعي بالمقدار نفسه الذي بدا في انتخابات 2005 أنه كان متعاطفاً مع عون، إذ كان حينذاك بمثابة ردّ فعل على ما قيل عن انتخاب النواب المسيحيين في بيروت والشمال بأصوات ناخبين من طوائف أخرى. وكان ردّ فعل كذلك في الانتخاب الفرعي على استشهاد الجميل الإبن واستهداف البيت السياسي، وعلى مواجهة الرئيس السابق بمرشح مغمور قيل فيه أخيراً ما قيل في مرشحين كان يختارهم الزعماء التقليديون ويسمّون «عصا» تتوخى كسر الزعيم المنافس. هذا التصويت عرفه المتن في انتخابات 1968 عندما اجتاحت مشاعر ناخبيه وكذلك ناخبي أقضية كسروان وجبيل وبعبدا عبارة مفادها أن تمثال سيدة لبنان في حريصا «برم» غضباً من الشهابيين. وعندما صرخ زعماء الحلف الثلاثي، شمعون وإده والشيخ بيار الجميل، في سيارة مكشوفة يجولون معاً في كسروان أن «فؤاد شهاب باع لبنان لعبد الناصر». على نحو كهذا انحاز المتنيون عام 2005 إلى لائحة عون ولم يكن هو في عداد مرشحيها، وانحازوا مجدداً إلى الجميل في الانتخاب الفرعي.
3 ـــــ أعطت القرى والبلدات المتنية الـ96 نتائج متفاوتة الدلالة، ولعلّ أبرزها أن 22 بلدة مثّلت وحدها 68 في المئة من مقترعي البلدات الـ96. بين هذه 16 بلدة يزيد عدد مقترعيها على 1500 مقترع، و6 بلدات يزيد مقترعيها على ألف مقترع. والبلدات الباقية دون الـ1000 مقترع. في حصيلة اقتراع البلدات الـ96 حاز الجميل 24143 صوتاً ومنافسه كميل خوري 28932 صوتاً، بفارق 4789 صوتاً تقدّم بها خوري على الجميل. ولم يكن في وسع الجميل تعويض هذا الفارق إلا من خلال البلدات الصغيرة التي اقترع له معظمها بغالبية مرجّحة، وأخصّها المجاورة لبكفيا وجلّها في وسط المتن، في حين أن البلدات الكبرى التي كادت تساوي بين أصوات المرشحين تتوزّع على الجرد والساحل.
وفي واقع الأمر، لم يكن في وسع الجميل تقليص الفارق بينه وبين مرشح عون إلى 418 صوتاً إلا بفضل أصوات البلدات الصغيرة التي عوّضت فارق أصوات برج حمود إذ أعطت 4507 أصوات لمرشح عون الذي تقدّم على الجميل بها إلى 200 صوت أخرى، في إمكان أي كان أن ينسبها إلى نفسه.
يشير ذلك إلى أكثر من دافع قد يكون بينها:
ـــــ مغالاة عون في قراءة نتائج انتخابات 2005 على أنها تفويض مطلق ونهائي، له هو أكثر منه تأثراً بعاصفة سياسية ومذهبية رافقت الانتخابات سنتذاك.
ـــــ مغالاة الجميّل في القول إنه انتزع من عون منطقة، كانت في الواقع موزّعة الولاء عليهما وعلى حزب الطاشناق وميشال المر، وعلى أفرقاء آخرين بنسب متفاوتة.
ـــــ على مرّ عقد تسعينات القرن الفائت ملأ المر بحكم موقعه في السلطة وتحالفه مع دمشق فراغ زعامة متنية مقصية أو مهجورة، إلى أن تراجع تأثيره مع خروجه من الحكم وانقلاب الوضع اللبناني رأساً على عقب عام 2005 وعودة عون إلى لبنان. لكن أحداً لا يفوته، في انتخابات 2000 في ظل النفوذ السوري، مقدار الاتصالات بين المر والجميل في خوض الانتخابات التي أخفقت جميعها. ثم كان صراع الرجلين في الانتخاب الفرعي عام 2002.