strong> غسان سعود
بعد أيام على انتهاء معركة المتن الانتخابية، بدأت تتضح للقوى السياسية في هذه الدائرة حقيقة ما حصل في ذلك اليوم الانتخابي الطويل، في ضوء فوز مرشح «التيار الوطني الحر» كميل خوري.
كتائبياً، يردد المحازبون ما يقوله قياديّوهم، فيتحدثون عن «انتصار مسيحي» و«استعادة الزعامة المارونية» و«تكريس الحضور الكتائبي القوي في المتن». ويرفض أحد قياديي الحزب مقولة أن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع هو المنتصر الرئيسي مما حصل، موضحاً أن الجميّل هو «الأكثر حنكة بين قادة الأحزاب المسيحية، ونجح في تجيير ماكينة القوات الضخمة لتكريس زعامته ضمن أفرقاء 14 آذار المسيحيين في هذه المعركة».
ويتابع القيادي متسائلاً: «لمصلحة من عاد القواتيون ليرفعوا أعلام الكتائب ويهتفوا باسم «الرئيس الأعلى»، مؤكداً أن الجميّل نجح خلال أقل من 48 ساعة باستعادة «القيمة الكتائبية» وسط القواتيين، الأمر الذي فشل معظم قادة الحزب في القيام به منذ اغتيال الرئيس بشير الجميّل.
إلا أن الانتخابات، بحسب أكثر من قيادي كتائبي، كانت لها ارتدادات سلبية على زعامة الجميّل للحزب، بسبب النتيجة من جهة، وبعض قراراته المتعلقة بالاستحقاق من جهة أخرى، إذ يدور همس اعتراضي على قيام الجميّل بمصالحات كتائبية ـــــ كتائبية، حاول وضعها في خانة «أبرز إنجازات المعركة». ويتذمر مقرّبون منه من هذه المصالحات، ويستغربون كيف يقدم الجميّل على مصالحة «حاردين»، بحسب تسمية الجميّل، في الجديدة وبسكنتا والمنصورية وغيرها، من دون العودة إلى أنصاره في هذه المناطق، والوقوف أقلّه على خاطرهم، واستدعائهم إلى اجتماعات المصالحة. ويقول هؤلاء إنهم تخاصموا مع رفاقهم احتراماً لقرار الجميّل، واختلفوا مع جيرانهم وأقربائهم، وإذا بهم يفاجأون قبل أيام من المعركة الانتخابية بهذه المصالحة.
وفي سياق التذمر الكتائبي، يقول أحد قادة الحزب البارزين إن «الرئيس الأعلى» انتهى سياسياً، و«يفترض اليوم البحث جدياً وسط الكتائبيين عن الطريقة الأفضل لتنحيته من دون إثارة مشاكل»، فيما يرى آخر أن خسارة الرئيس «تفترض أن تدفعه إلى مراجعة مسيرته السياسية الطويلة، والإقدام على خطوة مشرّفة تتمثل بالاستقالة من العمل السياسي والتحول إلى مرجعية وطنية كما فعل، مثلاً، الرئيس سليم الحص بعد خسارته عام 2000». ويرى القيادي أن عدم ذهاب الجميّل في هذا الاتجاه سيشجع خصومه الكتائبيين على رفع الصوت والجهر بما يتناقلونه سراً.
وفي السياق نفسه، يوضح أحد المسؤولين العريقين أن الحزب تاريخياً كان على يمين رئيس الجمهورية وممثل المسيحيين في السلطة، فيما خاض الحزب مع الجميّل «معركة تهميش الرئاسة» و«وأد صلاحيات الرئيس». وبخسارة الجميّل ما عاد ممكناً الكلام عنه كمرشح رئاسي، كما فقد الحزب فرصة التمثيل في أي حكومة والمشاركة في طاولة الحوار إذا حصل، بعد تدني عدد أعضاء كتلة الحزب النيابية، إضافة إلى اندفاعة الجميّل في الإساءة إلى الشركاء اللبنانيين ومعاداته الطائفتين الشيعية والأرمنية، اللتين تحظيان بوجود كبير في مناطق النفوذ الكتائبي، الأمر الذي يقطع الطريق مستقبلاً على أية فرصة كتائبية للوصول إلى المجلس النيابي بكتلة كبيرة نسبياً.
أما عند التيار الوطني الحر وحلفائه، فلا تبدو الصورة أفضل. فالماكينات الانتخابية والمناصرون الذين تراوحت تقديراتهم للفوز بين ثمانية آلاف (ماكينة المر) و13 ألف صوت (ماكينة التيار)، ما تزال تحت وقع المفاجأة التي خيّبت آمالهم. ولم تعقد بعد الاجتماعات التقويمية الجديّة لما حصل، وسط مؤشرات تدل على عدم الاتجاه لعقد مثل هذه اللقاءات في القريب العاجل.
وتتوقف القراءة العونية الأولى لنتائج المعركة عند إخفاق ماكينة التيار شكلاً ومضموناً، وخصوصاً بعدما تلوّن المتن الشمالي خلال يوم الانتخابات بالأخضر الكتائبي، بعدما حُسمت المعركة الإعلامية لمصلحة الكتائب. وهكذا أتى اليوم الانتخابي ليظهر للناخبين «زوراً» أن الغالبية الشعبية تؤيّد الكتائب ونهجها السياسي بعد أن أكد ذلك إعلام السلطة.
وإضافة إلى البحث في الخطاب السياسي العوني الذي لم ينجح في مقارعة الخطاب العاطفي الكتائبي، وجذب الكتلة الناخبة المستقلة التي صوّتت بغالبيتها الساحقة لمصلحة الجميّل بعد أن اقترعت لمصلحة عون عام 2005، يصرّ بعض العونيين على ضرورة محاسبة مندوبي التيار في بعض البلدات، حيث حصلت خروقات كتائبية كبيرة يتحمل قياديّو التيار في هذه البلدات مسؤوليتها، وخصوصاً أن بعضهم لم يبادر إلى الاتصال بالمستقلين وشرح ما يلتبس عليهم من مواقف، فضلاً عن انتصار الخلافات الشخصية على الوعي الحزبي والديموقراطية داخل المؤسسة، الأمر الذي زاد من إرباك ماكينة التيار.
كذلك أثير جدل كبير وسط العونيين بشأن دور بعض نواب «تكتل التغيير والإصلاح» وأدائهم، حيث تلقّى التيار صفعة قوية من بلدة أحد النواب ومحيطها، وكان يعوّل على نتيجة إيجابية كبيرة فيها، لكن سرعان ما تبيّن أن عضو التكتل لم يقم بواجبه، ولم يجرِ إلا بعض الاتصالات الثانوية التي لم تثمر أصواتاً ناخبة، فيما عمد نائب آخر إلى الإدلاء صباح يوم الانتخابات بتصاريح استفزت القوميين السوريين، بعدما وصفهم بأنهم «أقليّة سورية لا وزن لها ولا قيمة»، ما جعل بعض القوميين يعزفون عن التصويت.
وتتحدث بعض الأوساط العونية عن رد فعل مناطقي شعبي على ترشيح خوري ابن بلدة قرنة الحمرا، التي لا يتعدى عدد ناخبيها 1200 ناخب، معظمهم كتائبيون، بدل ترشيح أحد أبناء بلدة سن الفيل ـــــ جسر الباشا التي يتجاوز عدد ناخبيها تسعة آلاف ناخب، رغم التأييد الذي كان يمكن لمرشح كهذا أن يحصده، علماً بأن النتائج بحسب التيار لا تدعو إلى التشاؤم، وتظهر أن امتداد التيار الماروني يحافظ على بعده.
ووسط الشائعات عن فارق تعدى أربعة آلاف ناخب لمصلحة خوري، حيث قلّص هذا الفارق بضغط من سفارات أجنبية ومرجعيات روحيّة، يتحدث النائب نبيل نقولا عن دفع أموال للناخبين تخطّى التوقعات، حيث وصل الأمر بماكينة الكتائب إلى دفع مئات الدولارات لقاء صوت واحد. ويوضح في هذا السياق أن قرار وزارة الداخلية السماح باحتساب الأوراق التي تضم ألقاب الجميّل «شرّع عملية الرشوة، حيث يتحقق الراشي من التزام المرتشي، فتُحصى الأصوات التي اقترعت مستخدمة اللقب المتفق عليه مسبقاً».
وفي السياسة، يقول مصدر متني وقف على الحياد، إن العماد عون «خرج منتصراً حتماً، وكرّس زعامته المسيحية خلافاً لما يشاع»، مؤكداً أن الكتائب «بمرشحها الاستثنائي ووسط حالة عاطفية، إعلامية، وتجييشية هائلة، ومدعومة من ماكينة النائب سعد الحريري المالية، وماكينة القوات العملية والمعنوية التي وفدت من مناطق عدة إلى المتن، لم تستطع أن تسقط مرشحاً كان حتى عشية الانتخابات مجهولاً من معظم أبناء المتن، والدليل هو حصوله في بلدته قرنة الحمرا على أقل من ثلث أصوات المقترعين». أما التمثيل الماروني، فيدعو المصدر المستقل إلى إسقاط نسبة ناخبي «بكفيا الكبرى»، واحتساب المقترعين دون هذه المنطقة، حيث انكفأ التيار وحلفاؤه لأسباب عاطفية وأمنية، فيتبيّن أن خوري حصد غالبية أصوات الموارنة، وبفارق كبير عن منافسه. وينتهي المصدر إلى التأكيد أن ماكينة التيار وحلفائه بدأوا الإعداد الفعلي للعملية الانتخابية صباح يوم الجمعة فقط. بينما أنهت ماكينة الجميّل استعداداتها منذ أكثر من ستة أشهر، وحصلت على «كلمة شرف» من ناخبين كثر.
وعلى هامش الآراء من معركة المتن، يتهامس المتنيون بأن ماكينة سريّة كان لها الدور الأبرز في نيل الجميّل النسبة التي حصدها من الأصوات، قوامها عدد من الإكليروس الذين قضوا ليلة السبت متنقلين بين منازل المتنيين، وفي أحد جيوبهم الكتاب المقدس، وفي الآخر لوائح تحمل اسم الرئيس أمين الجميّل «ابن السلالة العظيمة ووالد الشهيد».