strong> ليال حداد
  • الآلاف عادوا إلى لبنان هذا الصيف ليضخّوا الحياة في قطاعات سياحية

  • المغتربون اللبنانيون كذّبوا التوقعات، وها هم يصلون بالمئات والآلاف لتمضية الصيف في لبنان، غير مكترثين بالوضع الأمني غير المستقر، بل إنهم يتحدّون بعودتهم هذه كل «المعوِّقات»، ويسهمون في تنشيط بعض المرافق السياحية وفي بث الحياة والأمل بين اللبنانيين الآخرين

    «إجا بابا، وصل بابا». يتخطى علي ابن الخامسة حاجز الحديد الذي يفصل الواصلين إلى مطار بيروت عن المستقبلين، ويرمي نفسه بأحضان أبيه. سنة وخمسة أشهر مرت لم ير علي خلالها أباه. والآن حان وقت اللقاء. سامي قبيسي والد علي، لبناني يعمل في الغابون منذ أكثر من أربع سنوات، واللقاء السنوي مع عائلته يكون في صيف كل عام. إلا أنه في السنة الماضية لم يتمكن سامي من زيارة لبنان بسبب العدوان الإسرائيلي، ولم يتمكن من ترك عمله في الأشهر التي تلت العدوان. «مش مصدقة إنو عمبشوفو قدام عيوني» لا تجد فاطمة زوجة سامي غير هذه العبارة للتعبير عن فرحتها بعودة زوجها إلى لبنان.
    تُنَقِّل مريم الخوري نظرها بين المستقبلين. تحاول أن تجد أُمها وشقيقتها. لا تراهما. تعيد عملية البحث. وإذا بوجه أمها يظهر من خلف باقة زهور بيضاء وزرقاء. تركض مريم إلى أمها، تقبِّل يدها وتعانقها: «أختك ما قدرت تجي، بس رح تلاقينا بالبيت». تبتسم مريم، وتستفيض بالكلام عن فرحتها بعودتها إلى لبنان بعد ثلاث سنوات من الغربة في كندا: «ما في متل لبنان، كندا منيحة للجنسية بس». تنظر إلى أمها مجدداً لتتأكد من أنها ما زالت إلى جانبها. تلتقط يدها وتكمل الحديث: «ما أن آخذ الجنسية الكندية سأعود إلى لبنان، بدي ارجع آكل من أكل أمينحن ننتظر منذ ساعة ونصف، يبدو أن الطائرة تأخرت»، يبدو القلق واضحاً على وجه أم قاسم. كان من المقرر أن تصل الطائرة التي تقل ابنتها راغدة من دبي منذ أكثر من أربعين دقيقة. «كل شهرين تأتي راغدة إلى لبنان، ومع ذلك في كل مرة أستقبلها أشعر بأن دهراً مر على سفرها». لا مجال لمجادلة أم قاسم بمشاعرها. فهي أم، ولغياب ابنتها، سنتين أو شهرين، المفعول نفسه: «هالمرة بدي أقنعها تترك دبي وتجي تعيش هون، يقطع الغربة وساعتها». تظهر راغدة أو «دادو»، كما تسميها أم قاسم، بين الواصلين، تقطع أم قاسم كلامها وتركض لتعانق ابنتها: «ليش تأخرتي؟».
    أكثر من خمسة عشر شخصاً يحتلون مقدمة صفوف المنتظرين في مطار بيروت. «عكار كلها هون، كل ضيعة إجت تنستقبل الياس». قصة أخرى من قصص المغتربين اللبنانيين، لكنها هذه المرة أكثر تعقيداً. إلياس شعيا، مغترب لبناني، لم تطأ قدماه أرض لبنان منذ ما يزيد على خمس سنوات. كان مسجوناً في ألمانيا «لجريمة لم يرتكبها» كما يؤكد شقيقه جورج. والآن، بعد أن أفرج عنه، وقضى مدة حكمه، ها هو يعود إلى لبنان، ليحظى باستقبال «شعبي». تتأخر الطائرة. يعلن عن تأجيل الوصول ثلاث ساعات بسبب تأخير في مطار ألمانيا. يصيب اليأس أفراد العائلة، «سننتظر، ثلاث أو عشر ساعات، غير مهم، المهم أن يصل الياس إلى بلده»، يدير جورج ظهره، قاصداً أحد المقاعد الموضوعة في وسط المطار، ويجلس عليه مستريحاً.
    هذه القصص ليست غريبة عن مطار بيروت، لكنه عينة بسيطة مما يشهده كل يوم، المئات يعودون، رغم الأوضاع السياسية المتوترة، والتصريحات النارية والوضع الأمني غير المستقر... اللبنانيون كذّبوا التوقعات والتحليلات، وأتوا بعشرات الآلاف. المغتربون هنا إذاً لقضاء عطلة الصيف في ربوع لبنان كما كانوا يفعلون دائماً.
    بعد أسبوع أو شهر أو شهرين كحد أقصى، سيحزمون أمتعتهم من جديد ويرحلون إلى بلدانهم الثانية التي أمنت لهم عملاً وعيشة كريمة عجز وطنهم عن تأمينها لهم.
    الأرقام الصادرة أخيراً عن المسؤولين في مطار بيروت دليل على رغبة اللبنانيين بالعودة إلى لبنان هذا الصيف، وإن كان التصنيف لا يميز بين المغتربين والمقيمين الذين سافروا لفترة قصيرة وعادوا أخيراً. القادمون عبر مطار بيروت الدولي خلال شهر حزيران لعام 2007 كانوا كالتالي: لبنانيون 84041، وعرب 13886، وأجانب 42631. وفي شهر تموز لعام 2007 كان القادمون كالتالي: لبنانيون 108486، عرب 25849، أجانب 63199، المجموع 197534.

    الموسم «عمران»

    لا يتوقف هاتف جواد خراط عن الرنين. والجواب واحد على كل الاتصالات: «لا يوجد لدينا سيارات للإيجار، كلها مأخوذة». فموسم الصيف الحالي «عمران» على حد تعبير خراط ومعظم اللبنانيين المغتربين عادوا إلى لبنان: «السنة الماضية بداية الموسم أي في شهر حزيران وبداية تموز كان الوضع مماثلاً لما هو عليه الآن، كانت كل السيارات التي أملكها في مكتبي مؤجرة، إلا أن الحرب وقعت، فانتهى الموسم». أما الآن فيبدو خراط الذي يملك مكتباً لتأجير السيارات راضياً عن سير العمل الذي لا يهدأ، وكل سيارة تُعاد إلى المكتب يتم تأجيرها خلال أقل من ساعةغير أن أكثر ما يرضي خراط هو أن المستأجرين أغلبهم من اللبنانيين المغتربين لا من الخليجيين أو الأوروبيين: «أشعر بإحساس جميل حين أؤجر سياراتي للبنانيين، لا أعرف لماذا، لكن عودة اللبنانيين تعطيني شعوراً بأن الوضع الأمني والسياسي بدأ يتحسن». يؤكد خراط أن الوضع مشابه لدى معظم أصحاب مكاتب تأجير السيارات: «أن يستأجر المغترب سيارة أفضل من أن يدفع نصف ماله على التاكسيات، في كل مرة يريد أن يقصد مكاناً». غير أن تعليق خراط لا يبدو صحيحاً بالكامل. فعبد داغر صاحب أحد شركات التاكسي الخاصة يؤكد العكس: «المغترب اللبناني، وخصوصاً الذي مضى وقت طويل على غربته، يفضل أن يتنقل بتاكسي خاص يقله إلى أي مكان يريد، فالطرقات اللبنانية صعبة، ومن عاش في أوروبا أو الدول العربية يصعب عليه التأقلم مع الوضع المأساوي للطرقات». يهز داغر رأسه أسفاً على الحفر التي تنتشر «أكثر من الهواء» في لبنان ويستعيد العبارة اللبنانية الشهيرة «بلبنان كل شي زفت إلا الطرقات».
    يقطع حديثه باحثاً عن ورقة تظهر نسبة تحسن العمل بين السنة الماضية وهذه السنة. كل شيء واضح لديه: «هذا الرسم يوضح أكثر ما أتحدث عنه، في العام الماضي كانت كل سيارة في المكتب لدي تقوم بأربع نقلات كحد أقصى، أما في هذا الصيف فكل سيارة تقوم بخمس نقلات كحد أدنى، يعني لبنان بيعمر بألف خير من الله لو هالسياسيين بحلّو عنّا».
    النبطية، أكثر المناطق التي عانت هجرة أهلها، ولا سيما مع الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، والمدينة تشهد هذا الصيف عودة قسم كبير من أبنائها. المطاعم والمقاهي عادت تغص بالمغتربين، حتى إن العشاء أو الغداء في أي منها بات يتطلب حجزاً مسبقاً. أبو أكرم صاحب مقهى «أطيب لقمة»، وهو مقهى صغير لا تتعدى قدرة استيعابه للزبائن عشرين شخصاً، ومع ذلك يبدو الفرح ظاهراً على وجهه: «هيدا أحسن موسم، من زمان ما اشتغلت هلقد، حتى أم أكرم عمبتشتغل معي تنلحق نخدم الزبونات». يتحدث أبو أكرم عن الحركة الكثيفة في معظم المقاهي، لكنه يتحسر على أمر واحد: «هنالك الكثير من أهالي النبطية الذين لا يقصدونها، وذلك بسبب العدوان الإسرائيلي، فابني مثلاً وزوجته فرنسية، عاد إلى لبنان منذ ثلاثة أسابيع، ترفض زوجته أن تسكن هنا، لذلك استأجر منزلاً في بيروت، وحين يأتي إلى الجنوب لا يصطحب أولاده معه، زوجته تخاف من القنابل العنقودية». ويؤكد أبو أكرم أن وضع ابنه مشابه للكثير من أوضاع المغتربين، ويستشهد بأبناء حيه وقريته ليثبت كلامه.
    جولة في منطقة النبطية وجوارها وحديث مع المغتربين يعكس فرحة كبيرة بالعودة إلى البلدة.
    مصطفى عساف أحد المغتربين في جنوب أفريقيا لا يفوِّت فرصة لتكرار عبارته: «بعد النصر أصبحنا متعلقين أكثر بالنبطية وبالجنوب، أصبحنا نعرف قيمة الأرض وعذاب الغربة، العدوان أعطانا دفعاً للعودة».




    لن تفسدوا عطلتنا

    اتفق أكثر من تسعة آلاف مغترب لبناني على ألا يفسد أحد عطلتهم في لبنان هذا العام. وقد «وقّعوا» هذا الاتفاق في ما بينهم من خلال مجموعة أنشأها عدد من اللبنانيين على موقع «فايس بوك» (Face book). وقد انطلقت هذه المجموعة غداة اندلاع معركة نهر البارد التي أثارت خوفاً كبيراً لدى المغتربين. إلا أن هذه المجموعة اللبنانية أصرّت على أن صيف 2007 سيكون مختلفاً عن صيف 2006، وأن عصابة «فتح الإسلام» لن تثني اللبنانيين عن العودة الى وطنهم.
    معلومات، وإرشادات وصور، يتبادلها أعضاء المجموعة لتشجيع المغتربين والأجانب على زيارة لبنان «الجنة على الأرض».
    وقد نجحت هذه المجموعة في تحقيق ما عجز عنه القاطنون في لبنان، فالحديث عن السياسة ممنوع وإلا يُطرد العضو من المجموعة، إذ إن الشعار الأساسي للمجموعة هو: إذا اتحدنا صمدنا وإذا انقسمنا تفتّتنا.
    ويقوم أعضاء المجموعة بتبادل النصائح حول أفضل الطرق لتمضية الوقت في لبنان والقيام بأمور مفيدة ومسلية.
    وقد حظيت هذه المجموعة باهتمام كبير من المجموعات الغربية الموجودة على الموقع، بسبب العدد الكبير للأعضاء الموجودين فيها، ما دفع بعض الغربيين من أوروبيين وأميركيين وحتى أفارقة الى الانضمام إليها. والخبرات المكتوبة في المجموعة توضح أن عدداً من هؤلاء الأجانب أتوا الى لبنان بهدف السياحة.
    «المجموعة أعطتني دفعاً للقدوم الى لبنان بعدما كنت خائفاً من أحداث الشمال»، هذا ما قاله إيلي أحد أعضاء المجموعة، ووضعه مشابه لما يشعر به معظم الأعضاء الذين وجدوا في هذه الحملة دحضاً لكل المزاعم القائلة إن الوضع الأمني في نهر البارد سيمتد الى باقي المناطق.