strong> وفاء عواد
داخل محفظة خضراء صغيرة لا تفارق جيب ثوبها الشرعي، تحتفظ زينب مكّي بكل ما عثرت عليه بين الركام من ذكريات عائلتها الشهيدة: بياني قيد إفراديين (رقم 214/ تبنين) لكل من والدتها أسمهان وصغيرة البيت «الشقراء» سارة التي استشهدت ولم تكن قد شهدت بعد ربيعها السابع، صورة والدها حسّان، وتبقى صورتا علي ومريم اللتان طمرهما الركام في بالها. تتذكّر: «كمان لقيت جزدان أمي وما في شي غير مكنة حلاقة كان بيّي مضيعها من زمان».
بلهجتها الجنوبية، مرفقة بابتسامة لا تفارق محيّاها فيها من التحدّي ما يفوق الحزن بكثير، وبذكاء يتخطّى حدود سنوات عمرها الـ14، تعود بها ذاكرتها المثقلة بأدقّ التفاصيل إلى ليلة ما قبل المجزرة. باتت ليلتها في المجمّع عند صديقتها دعاء التي «كانت زهقانة، وبقيت عندها حتى أسلّيها»، فيما كان والداها وإخوتها الثلاثة في بيت عمّتها في حيّ السلّم حيث قضوا معظم أيام الحرب. وصبيحة اليوم «المشؤوم»، ذهبت زينب برفقة دعاء الى حيّ السلّم، «كنّا جائعتين، وما كان في عنّا أكل بالمجمّع، وجدت أمي هلكانة كتير من الشغل، وكانت صايمة. وجدت علبة ذرة كبيرة، فسألت أمي: ليش ما منفتحها؟ قالت لي: ما في لزوم نحنا راجعين عالرويس». وكانت هذه الكلمات آخر ما سمعته زينب من والدتها.
ساعدت والدها في نقل الأغراض إلى السيارة (الكومبيوتر، المروحة، الثياب، والفرشات) ولم تعد معهم لسببين: «سيارتنا مرسيدس بيضا كبيرة، بس ما ساعت.. وحتى أخواتي قعدوا فوق لأغراض، ولأنو كان عيب إترك الجماعة (الشهيدة ليلى شحرور وأولادها) يرجعوا بالشمس لحالهن، ما كان في لا سرفيسات ولا فانات».
في طريق العودة، كُتب لـ«المشاة» أن يستريحوا في منزل عمّة دعاء الواقع في أوّل حيّ السلّم. ذهبت والدة دعاء مع ابنها محمد لشراء «المناقيش» ومتابعة السير في اتجاه المجمّع، و«بقينا أنا ودعاء وأخوها إسماعيل، كنت كل شوي ماطل بالرجعة».
وفي لحظة قصف المجمّع، كانت زينب تؤدّي فريضة الصلاة: «حسّيت كأنّو في زلزال عم يهدّ جبال. سمعت صوت أول صاروخين، وكتر صوت القصف، نزلنا إلى الملجأ، صاروا يقولوا: يمكن بالشيّاح، ويمكن بحي السلّم وأنا ما خفت لأنّو أهلي معهن سيارة». بعد ذلك، وجدت زينب نفسها في الطريق الجديدة التي اصطحبهم إليها عمّ دعاء.
لم يتسنّ لها أن تعلم بخبر قصف المجمّع إلا عند الساعة الرابعة والنصف، عبر شاشة تلفاز في بيت «الزلمي»: «كتبوا عن ضحايا بمجمّع الحسن. صرت خبّط بحالي. قالت لي عمة دعاء: توكّلي على الله وما تخافي. قلتلها: كيف ما لازم خاف وكلّ أهلي راحوا».
ولأن الهاتف لم يكن متوافراً في المنزل حيث كانت «عطيوني الجماعة 500 ليرة ونزلت عالدكان. طلبت رقم بيتنا (01478114)، بس ما حدا ردّ، كل شوي كنت إنزل جرّب: عمتي فدوى ما ردّت عليي... نسيت رقم بيت جدّي.. وما كنت حافظة من رقم عمي إلا 115».
في ساعات الصباح الأولى من يوم الاثنين، بدأت زينب رحلة البحث عمّن يطمئنها إلى مصير أهلها: في حيّ السلم حيث تقطن عمتها، نادت والدها وأمها من مدخل البناية «لأنّي فكّرتن رجعوا لهونيك»، لكن «رفيقة عمتي ردّت عليّي وقالت لي: أهلك ما إجو ولا اتصلوا». وعندما لم تجد أحداً في منزل عمتها فدوى الكائن في حي الجامعة، طلبت من عمّة دعاء أن تأخذها الى المجمّع: «ببوس إيدك، خديني بدّي شوف أهلي.. بس ما وافقت».
تتذكّر أن محمد قرعوني (8 أعوام)، شقيق دعاء وابن الشهيدة ليلى شحرور، كان مفقوداً، فوجده عمّه في إحدى المدارس. وما إن عاد الى الطريق الجديدة حيث أجبرت على البقاء حتى سألته عن أهلها، فأخبرها أنه عندما نزل من المجمّع ليشتري من الدكان القريب شاهد شقيقها علي واقفاً على شرفة المنزل وبيده قفص في داخله عصفور... علماً أن محمد لم يكن قد علم بعد باستشهاد والدته.
وبناءً على طلبها وبكائها المتواصل، رضخت عمّة دعاء أخيراً لأمر كانت تعرف نتائجه. اصطحبت زينب ودعاء إلى المجمّع مشياً على الأقدام، عند الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الثلاثاء. وعن هذه اللحظات تقول زينب: «قبل ما نوصل، كان في حاجز لـ«حزب الله» ممنوع نتجاوزوا... قالوا في قازانات بلكي انفجروا... مرقت، قاموا صاروا يعيطوا عليي. ولما وصلت عالمجمّع، لقيت خالي عبد الله اللي كان عم يدوّر بين الجثث عني وعن أختي مريم.. بصعوبة سمع صوتي وأنا أناديه بسبب صوت الجرّافات.. وعندما رآني لم يصدّق.. كانوا كلهن مفكرينّي استشهدت مع أهلي».
أول معرفتها بمصير أهلها كان لدى طلب خالها عاطف منها مرافقته الى مستشفى الزهراء بحجّة أن أختها مريم مصابة بجروح. هناك، وبعد إلحاحها على رؤية أختها، أخبرها خالها بأن مريم في «البرّاد»، فكانت هذه هي «الصدمة الأولى» التي مهّد بها خالها قبل إخبارها بأن جميع أهلها استشهدوا. «ما ركّزت على شي من يلّلي قالو»، ولم تتأكّد من الخبر اليقين إلا عندما اصطحبها أخوالها الى منزل جدّها لوالدها: «صاروا الكلّ يبوّسوني، وحطّوا قدّامي صحن فواكه كبير... صرت إبكي وقول: مين بدّو يهتمّ فيّي... وشو يعني ما بقا لح شوف سارة واتخانق مع خيّي علي وإحكي حكايات أنا ومريم».
مصيبتها جعلتها «مدلّلة» الجميع، ولا سيما حيث تعيش في محلّة زقاق البلاط في كنف جدّتها وجدّها حسين الذي اشترى لها كومبيوتر «جابو من آخر الدنيي بسعر غالي ووعدني يجبلي سيارة بس يصير عمري 18 سنة ومستعدّ يلبّيلي كل طلباتي، حتى لو طلبت لبن العصفور»، إلا أن الأمر لا يعوّضها عن خسارة مَن «أكلها كان أطيب»، والوالد «الصبور الحنون والمتسامح»، و«نهفات» إخوتها التي تسترجعها كلما مرّت من أمام المجمّع، ولا سيما «خناقاتها» مع شقيقها علي، لتقول: «يا ريت أخدوني معهن».
بعد عام على استشهاد والديها وإخوتها، تفاخر زينب بأنها ترفّعت إلى الصف الثاني المتوسّط بـ«نجاح كان كتير منيح، وفوق المعدّل» أهدته الى والدها الذي كان «حابب نكون ناجحين ويرفع راسو فينا، وصيتو رح نفّذها». أما عن المستقبل، فتشير الى أنها ستكمل دراستها الى أن تصبح طبيبة أطفال، وذلك بناءً على رغبة أمّها: «كانت دايماً تقلّي: يا زينب، تعلّمي كيف لازم تصيري تداوي جروحات إخواتك».
كثيرة هي أمانيها، منها أن يبنوا لها «كوخاً» في المجمّع لتعيش فيه، وتحلم بأن تتزوج في المستقبل «مقاوم مؤمن.. وأخلاقو منيحة»، ويكون لديها ثلاثة أطفال يحملون أسماء إخوتها الشهداء. لكن أمنيتها الغالية التي لن تتحقّق هي لو أن أختها سارة لم تستشهد: «لأنها كانت صغيرة وما كانت تعرف شي عن الحرب.. وهيّي الوحيدة بعيلة بيّي وأمي اللي كانت شقرا وما بتشبه حدا. وبيّي كان يشوف حالو فيها كتير». تطلب نشر صورة سارة أصغر شهداء المجمّع في الجريدة «ما حدا بيعرفها، وأنا بس اللي معي صورتها»، وذلك لكي يراها كل من «البنات اللي كانوا عم يكتبوا عالصواريخ قبل ما توصل لعنّا»، ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة «بلكي بيندم شوي على استقباله كونداليزا رايس وقت بيعرف إنو الأم اللي لقيوها غامرة بنت صغيرة كانت أمي، والصغيرة كانت سارة»..!