نُشر التقرير المرحلي للجنة فينوغراد في 30 نيسان 2007، وقد تحدّث عن إخفاقات في إدارة دولة إسرائيل في كلّ من القيادتين السياسية والعسكرية. ينبع جزء من الإخفاقات من إدارة غير ناجعة للمعارك، فيما ينبع جزء آخر، تتطرّق إليه هذه المقالة، من تصوّر عام وتقديرات وضع خاطئة. وفقاً لرأي كتّاب التقرير، جعلت هذه الإخفاقات دولة إسرائيل، لأول مرّة في تاريخها، تنهي حرباً من دون أن يتم فيها إحراز نصر عسكري واضح
انحصر الانتباه العام، مع نشر استنتاجات تقرير لجنة فينوغراد، في تأكيد المسؤولية الشخصية للقيادة الحالية عن إخفاقات الحرب، حتى بدا أن الرغبة العامة «في قطع أعناق» المسؤولين عن الإخفاقات تحولت إلى درة تاج طلب تغييرات التي تقتضيها استنتاجات اللجنة.
رغم أنه لا اعتراض تقريباً على مسؤولية اولمرت وبيرتس وحلوتس الشخصية عن التدبير الفاشل للحرب، ترمي هذه المقالة الى أن تصرف، ولو قليلاً، النقاش العام الى المشكلة الرئيسية في رأينا، التي يواجهها التقرير المرحلي على نحو غير مباشر، وهي سياسة إسرائيل في الجبهة الشمالية منذ الانسحاب من لبنان في 24 أيار 2000 حتى 11 تموز 2006.
إننا نعتقد أن حصر العناية السطحي في الاستنتاجات الشخصية والعينية والأعراض التي سبّبت الحرب الأخيرة عوضاً عن المرض نفسه قد يجعل محاسبة النفس الايجابية التي تحدث الآن في دولة إسرائيل حدثاً عابراً ستتلاشى فائدته مع الوقت.
سنقف في هذه المقالة عند «التركة» الإشكالية التي حصلت عليها القيادة الحالية، وهي تركة نشأت عموماً عن طريقة تفكير كانت مقبولة عند دوائر واسعة في القيادة. أسهمت هذه التركة إسهاماً حاسماً في تكوُّن الظروف التي سبّبت ـــــ بحسب تقرير فينوغراد ـــــ الواقع الأمني الصعب الذي فشلت في معالجته القيادة الحالية. سنحاول تقويم تعاطي التقرير مع هذه الظروف والمعاني الممكنة للاستنتاجات التي خلص إليها من زاوية ربطها بالقضايا المطروحة على جدول العمل الأمني في إسرائيل.

الهدوء المُسكِر

تقرر اللجنة أن السنوات التي مرت منذ انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان كانت سنوات هدوء وازدهار نسبي لبلدات خط المواجهة في الشمال. كما ترى أن الفترة «كانت في مصلحة البلدات التي خبرت المعاناة وصواريخ الكاتيوشا من كريات شمونة والمطلة في الشرق حتى نهاريا ورأس الناقورة في الغرب»، وترى أنه «ليس عبثاً أن أطلق رجال الجيش على المنطقة الشمالية طوال تلك الفترة اسم منطقة الأكواخ الخشبية السياحية». وتمضي اللجنة وترى أن هذا التفيكر كان جزءاً من تصور عام رسخ عند أناس في المستوى السياسي والعسكري وفحواه «أن عهد الحروب قد ولّى».
تشير اللجنة من خلال هذه العبارات الى أحد العوامل الرئيسة التي صاغت سياسة إسرائيل خلال الفترة التي حققت فيها، وخاصة امتناعها عن نشاط كثيف لمواجهة استعداد حزب الله ونشاطه المتحدي على طول الحدود الشمالية. تولد طموح، مشروع في حد ذاته، الى مواصلة التهدئة «بأي ثمن» من أجل الإحسان الى سكان شمال الجليل «ولتمكينهم من الانتعاش من السنين الطويلة التي عاشوها تحت سطوة الكاتيوشا».
هذا الهدوء، كما يمكن أن يعتقد المرء، أسهم أيضاً إسهاماً حاسماً في رسوخ التقدير ـــــ الأمل في أن حزب الله يميل الى أن يُسلِّم، من دون رغبة على الأرجح، بالوضع الراهن الذي نشأ بعد انسحاب إسرائيل من لبنان، وأنه سيحاول منذ الآن فصاعداً أن يسعى إلى تحقيق أهدافه من خلال ـــــ وليس فقط ـــــ الوسائل السياسية، لا من خلال استخدام القوة. ولعل جهود حزب الله لحشد القوة السياسية في الساحة اللبنانية الداخلية عززت، على الأرجح، هذا التصور. وإضافة إلى ذلك تذكر اللجنة جملة أسباب أسهمت في تعزيز هذا التقدير المُسكر للوضع، ومنها:
1ـــــ النقد المتزايد داخل لبنان، وخاصة من قبل معارضي سوريا، لنشاط حزب الله العسكري ورفع مطالب تجريد المنظمة من سلاحها.
2ـــــ تزايد شدة ضغوط المجتمع الدولي على إيران وسوريا، راعيتي حزب الله.
3ـــــ ضعف سوريا في أعقاب موت حافظ الأسد وتولي زعيم ضعيف عديم الخبرة، هو بشار الأسد، زمام السلطة.
كل ذلك، إضافة إلى الرغبة في التغيير الجوهري لوضع بلدات الحدود الشمالية، جعل رئيس الحكومة آنذاك إيهود براك يعلن أن «خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان سيفضي الى تآكل شرعية حزب الله على الساحة اللبنانية في ما يتعلق بمواصلة نضاله العسكري في مواجهة إسرائيل». يمكن أن نجزم بأن هذا الاعلان عكس اعتقاداً في أوساط واسعة، لا رأي رئيس الحكومة فحسب.
في الحقيقة، لا توجد جهة تقدير جدية أوهمت نفسها عشية انسحاب اسرائيل بأن حزب الله يوشك أن يمتنع تماماً عن العمليات ضد إسرائيل. تصوغ اللجنة ذلك بطريقتها وتقرر أنه «لم يكن هناك من أوهم نفسه بالتفكير في أن حزب الله سيكسر سيوفه ويجعلها مناجل مع انسحاب إسرائيل من لبنان». كما ذكر اللواء عاموس مالكا في شهادته أمام اللجنة أن تقديره كرئيس لـ«أمان» (شعبة الاستخبارات العسكرية) كان مختلفاً عن ذلك الذي عُبّر عنه في تصريحات باراك. كان تقديره «أن الشرق الأوسط أكثر قراءة لرسائل نصر الله من رسائل إيهود باراك»، وأن الانسحاب من لبنان عُرض في العالم العربي على أنه هزيمة لإسرائيل، وأن حزب الله استغله لزيادة زخم بناء قوته العسكرية بمساعدة إيران وسوريا بالطبع.
أما غابي أشكينازي، قائد المنطقة الشمالية في فترة الانسحاب، فقد كتب في رسالة الى رئيس الأركان في آب 2000 أنه برغم الهدوء «النسبي» في الشمال، يمكن أن تفضي الاعمال العسكرية المناهضة التي يقوم بها حزب الله الى تدهور شديد للوضع على الحدود الشمالية، و«إذا استقرت هذه الظاهرة فستصبح واقعاً لا نستطيع التسليم له».
في تموز 2005 تقرر في تقدير لـ«أمان» أن المنظمة قد تنفذ تهديداتها وتحاول اختطاف جنود إسرائيليين. في كانون الاول من تلك السنة قدرت «أمان» مرة أخرى أن احتمال حصول عملية أسر مرتفع. في ذلك الشهر أرسل رئيس «أمان» آنذاك، اللواء (احتياط) أهارون زئيفي فركش، رسالة الى رئيس الحكومة آنذاك، اريئيل شارون، والى وزير الدفاع شاؤول موفاز والى رئيس الأركان دان حلوتس، قال فيها، من بين جملة أمور، إن «ثمة حاجة إلى رفع حالة الجهوزية والاستعداد لإمكان تصعيد على الحدود الشمالية».
يبدو أن المستوى السياسي لم يقبل بهذه الآراء التي عرضت توجهاً نقدياً للتصورات التي سادت. ويتولد الانطباع لدى المراقب أن وجهة النظر السياسية رأت في الهدوء النسبي الذي ساد منذ الانسحاب أحد العوامل التي قد تُسهم في «استمرار الهدوء». كما يتولد الانطباع من تقرير اللجنة أنه قد ساد عند جهات كثيرة في إسرائيل الاعتقاد بأن حزب الله سيستمر في العمل المناهض لإسرائيل، إلا أن نشاطاته المعادية ستتم بأقساط ضئيلة نسبياً، وأبعاد محدودة، وخلال فترات زمنية متباعدة. طريقة العمل هذه، وفقاً لذلك التصور، كان يفترض أن تُمكّن إسرائيل من أن تردّ ردّاً غير قوي، وأن تحافظ بذلك على استمرار الهدوء، أو لمزيد الدقة على استمرار التوتر فوق نار هادئة.
وتقرر لجنة فينوغراد أنها لا تنوي الاعتراض على سياسة الماضي، فتُظهر بذلك «حكمة ما بعد وقوع الفِعل». وعوضاً عن ذلك، عبّرت، محقة، عن الحاجة الى فحص القرارات التي اتُخذت من وجهة نظر صانعيها «في الوقت الحقيقي»، لا في نظرة الى الوراء. مع ذلك، يتبيّن من أقوال اللجنة أنه برغم الازدهار الاقتصادي الواضح في الشمال مع انسحاب القوات من جنوب لبنان، اقتضى الواقع في الجانب الشمالي من الحدود إثارة تقديرات معارضة للتصور الذي ساد المستويات السياسية الرفيعة، وبقوة أكبر. نعتقد أنه كان من الواجب على جميع من يعتقدون ذلك أن يعرضوا تقديراً معارضاً أساسه افتراض حصول تصعيد يبادر إليه حزب الله يأخذ شكل المخاطرة المحسوبة بإمكان اندلاع مواجهة عامة لإسرائيل. وهذا ما حدث آخر الأمر كما تعلمون.

نشاط من جانب واحد

تم انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان في 24 أيار 2000 بتنسيق مع الأمم المتحدة. قررت هذه أنه مع تراجع إسرائيل إلى الحدود الدولية تكون قد نفذت قرار الأمم المتحدة 425 من سنة 1978 (على أثر عملية الليطاني). كان الانسحاب من لبنان إذاً من جانب واحد، بلا تنسيق مع حكومة لبنان أو حزب الله. رفضت حكومة لبنان بالفعل قرار الأمم المتحدة وقررت أن تحقيق هذا القرار يقتضي انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا. بقيت إسرائيل متمسكة بزعم أن مزارع شبعا احتُلت من سوريا في حرب الأيام الستة ولهذا فإن الحديث من جهتها يتعلق بمنطقة سيُبحث مستقبلها في مفاوضة سوريا.
المنطق الذي قامت عليه خطوة الانسحاب الأحادي بسيط في أساسه: لما كانت إسرائيل غير قادرة على التوصل الى تسوية مع الجانب الآخر، فإنها ستقوم بما تراه ضرورياً بالنسبة إليها وفقاً لمصالحها الوطنية. ولما كان المجتمع الدولي سيعتبر أن إسرائيل قامت بالمطلوب منها، فسيضطر الجانب الثاني الى قبول قواعد اللعبة الجديدة التي ستُفرض عليه وأن يتصرف بحسب ذلك.
فشل هذا التصور في السياق اللبناني. تبيّن أن التسوية في الميدان يجب أن تكون منسقة لا مع الأمم المتحدة ولا مع القوى الكبرى بل مع الجهات المسيطرة ميدانياً، أي حكومة لبنان وحزب الله. فشل هذا التصور أيضاً في قطاع غزة حيث تم إجراء عملية انفصال شاملة. في الحالتين لم تنجح إسرائيل في أن تقنع الآخرين (ولا نعتقد أنها نفسها كانت مقتنعة بذلك) بأن انسحابها من لبنان ومن قطاع غزة لم يكن «خضوعاً للإرهاب» بل كان عملاً نبع من رؤية مصالحها القومية. قدّر الجانب الآخر، بقدر كبير من الحق، أن الانسحابات تعود إلى مخاوف إسرائيلية تتعلق بقدرتها على الاستمرار في مواجهة التحديات التي عرّضها لها حزب الله والمنظمات الفلسطينية.




المصدر
العدد الأول من «التقدير الاستراتيجي» الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة حيفا، حزيران 2007

العنوان الأصلي
إخفاق التصوّر في الطريق الى حرب لبنان

الكاتب:
زاخي شالوم
ويوعز هندل (معهد أبحاث الأمن القومي)

اجزاء ملف "إخفاقات في الطريق إلى لبنان":
الجزء الأول | الجزء الثاني