strong>رنا حايك
  • في ملعب الرجال كرست شهرتها البيروتية


  • يبتسم أهالي الطريق الجديدة في بيروت لذكر اسمها. يتجمّع رجال الحي حولها، ويحبون مجالستها، و«تتونس» نساؤهن في المنازل المحاذية بحسها يملأ الشارع. أما أصحاب الدراجات النارية في المنطقة وخارجها، فيعترفون بمهارتها في تصليح دراجاتهم. سميرة حسن، امرأة تتباهى بـ«مرجلتها» وتؤكد أن المرأة «بتجيبها من تم السبع» كما يفعل الرجل...

    «شو؟ إنت خضرة واللا موتو؟» تبادر سميرة إلى توجيه هذا السؤال إلى من يتوقف في الفسحة الصغيرة بين المحلّين اللذين تديرهما في الطريق الجديدة في بيروت: محل لبيع الخضر والفاكهة ومحل لتصليح الدراجات النارية. ترفض التقاط صورة لها أمام بسطة الخضر. «شو بيقولوا عني التجار؟ هاي مش مصلحتي، مصلحتي الموتوسيكلات وبس». لم ترتَد سميرة المدرسة، إذ كانت تكرهها، فقضت طفولتها وصباها بين إخوة ستة وأختين إلى أن تزوجت «ابن الجيران» عماد كنعان الذي ورث عن أبيه مهنة تصليح الدراجات النارية. بعد شهور من زواجها بدأت سميرة بمفاوضة عماد ليسمح لها بمساعدته. رفض في بادئ الأمر، وأوضح لها أنها مصلحة لا تناسب النساء، لكنها أصرّت، فـ«محاورة الزوج أسهل من محاورة الأخ».
    تمسكت سميرة بمطلبها، ووصل بها الأمر إلى تهديد زوجها بطلب الطلاق إن لم يستجب... وربحت سميرة «المفاوضات» على رغم معارضة أهلها وغضبهم منها. فقد استطاعت بعد الزواج أن تضع حداً لتدخلهم في قراراتها. قالت لهم: «هذا رأيكم وقد أوضحتموه لي، لا دخل لكم بمصلحتي، إلكن عليي بس إذا مشيت برّات الطريقما لبث غضب الأهل أن تلاشى بعد فترة قصيرة، وخاصة بعدما طغت شهرة سميرة على شهرة زوجها «في المصلحة»، وسميرة التي تزخر أحاديثها لمن حولها بالشتائم والكلمات القبيحة ما زالت حتى اليوم تلتزم حدود الأدب في كل كلمة تتلفظ بها بحضور أي فرد من أفراد عائلتها. وأصدقاء سميرة كثيرون، منهم «كارلوس» الشاب السمين الذي تطلب منه أن يجلس على الدراجة ليثقلها فلا تحتاج بذلك إلى «مكبس» يعيد بعض أجزاء الدراجة إلى حالتها الصحيحة.
    تعلمت سميرة مهنتها من خلال مراقبة زوجها وهو يعمل، فكانت تناوله أدوات العمل وتستوضحه دور كل قطعة في الدراجة. وبعد انقضاء خمسة أشهر تقريباً على ملازمتها المحل، تغيّب عماد ذات يوم عن الورشة خلال النهار، وحين عاد كانت قد أصلحت موتور 400 حصان. خاف الصبي الذي كان يعمل في المحل، فالـ«معلم» سيغضب بالتأكيد. سميرة خافت أيضاً، لكن نجاحها في إصلاح أول دراجة في حياتها غيّر كل الموازين. صار عماد يتحداها، يكلّفها بمهمات صعبة ويقول ممازحاً: «فرجيني شطارتك». وفي كل مرة كانت «تريه شطارتها» مدفوعة برفضها «إنو حدا ينغّم عليها» كما تقول.
    ذاع صيت سميرة وعُرفت بمهارتها في تصليح الدراجات النارية، وبخفة الدم في التعامل. فالجميع يحبها، نساءً ورجالاً، شباناً وصبايا، زبائن وتجاراً وجيراناً، إذ يتحلقون حولها في المحل، ويمرّون بها وهم يتوجهون إلى أعمالهم، فمحلها كالمحطة تتجول فيه كالنجمة. تتوصّل إلى مخاطبة الجميع وممازحتهم في الوقت نفسه، فلا يخفت صوتها لحظة.
    المشاهد عند سميرة تتكرر، هناك الفتاة التي تناديها: «تانت سميرة الماما بدها كيلو بندورة»، والجارة الحاجة التي تجلب لها طبقاً من مربى السفرجل لا تغضب من الكلمات النابية التي تسمعها إياها سميرة وهي تمازحها بأن «المربيات مش طازة»… والصبية المحجبة التي تمرّ بالمحل لتسأل عن أمها، جارة سميرة التي تقول لها: «هيدا جوزك أخو الـ… عوجك» إشارة إلى يدها المضمدة. وأبو عرب تاجر الخضر حاضر دائماً، تسأله سميرة عن البقلة وتشتم أهله لأنه نسي توريدها فيبتسم ساخراً وهو يقول: «كلنا منحبها علسانها الطيب» متهكماً على سلاطة لسانها... بين هؤلاء جميعهم تعيش سميرة، علاقتها بالرجال علاقة تحكمها الندية. و«تستغل» محبة الناس وتعقد المصالحات كلما استطاعت، وذلك بسبب «مونتها» على المتخاصمين. دخلت سميرة عالم الرجال من أوسع أبوابه، ويحكم رهان «إثبات» رجوليتها جميع تصرفاتها. فهي التي «كرسحت الرجال في المصلحة» على حد قولها، وهي التي تشعر بالاستفزاز حين يناديها التجار بـ«امرأة»، إذ تشتمهم وتقول لهم: «مين قالكن إني مرا، أنا رجّال». لكن سميرة ليست رجلاً. بعد انتهاء ساعات العمل، تنظّف يديها الملطّختين بالشحم من موتورات الدراجاتمستخدمةً «الأوديكس» وتدهنهما بالكريم، وتذكر كم أغاظها المصور الذي ركز على أصابعها السوداء حين شاركت في برنامج تلفزيوني عن نساء يعملن في مجالات غير تقليدية. تستعيد أنوثتها كامرأة لتحافظ على زوجها «أحسن ما يروح لبرّا هالـ…»، كما تقول وهي تغمزه مستغرقةً في ضحكة صاخبة. يعاتبها الحلاق الذي يهتم بشعرها لأنها لا تقصده إلا لماماً. تقود الدراجة لدواعي العمل، كشراء قطع الغيار أو تجربة الدراجة بعد التصليح. حبها لعملها «يجري في دمها» كما تقول. تحبّه ولا ترضى عنه بديلاً. لم تتوقف عن ممارسته إلا خلال فترة حملها. فقد اكتشفت سميرة أنها حامل حين أصابتها الدوخة ما إن حملت بين يديها موتور 1100 حصان. فوجئت بحملها بعد مرور عشر سنوات على زواجها شعرت خلالها باليأس لأنها لم تتمكن من الإنجاب على رغم أنها عولجت على أيدي أشهر الأطباء من آلام الظهر التي أصابتها بسبب عملها الشاق. كان الأطباء يطلبون منها الاستلقاء والراحة لكنها لم تكن تستطيع مغادرة المحل. فعملها هو حياتها، لكن على رغم عشقها له ترفض أن تورثه لابنتها زينة التي تريدها أن تتابع دراستها: «أريدها أن تتوظف في الدولة، فمصلحتنا هذه ستقضي على طموحها. وهي مصلحة قاسية، ومجويّة واللي مش قدها وقدود بيضيع فيها. ما بدّي تضيّع شبابها هون».
    لا حدود لـ«حكمة» سميرة… قاموسها يعجّ بالقناعات التي تتّبعها وتمارسها في حياتها اليومية، فالشباب الذين يجهلونها ويأتون محاولين التودد إليها يتلقون الشتائم بالجملة «فهم يحتاجون إلى أن يعرفوا منذ بداية إنو مش كل طير لحمه بيتّاكل». وغالباً ما يصبح هؤلاء بعد الصدام الأول أصدقاء لها. أحدهم قال لها ذات مرة إنه أصبح يعجب بالمرأة القوية بسببهاأصدقاء زوجها والجيران أيضاً يحسدونه عليها وغالباً ما يرددون: «يا ريت نسواننا متل مرتك». هذه التعليقات تفي سميرة حقها وترضيها. فحياتها وسلوكيتها وأبسط أحاديثها وتعليقاتها تتركز على الندية مع الرجل والرهان الدائم أنها لا تقلّ قوة عنه. تقولها صراحة: «أحاول أن أثبت أن لا شيء يصعب على المرأة، فهي تستطيع، حين تعطى لها الفرصة، أن تُقدم كل ما يقدمه الرجل، لا بل أكثر، لأنها تهتم بأمور المنزل أيضاً».
    حين تتعب سميرة، أو تملّ، تستأذن ابتعاداً عن ضجيج زوارها ومرتادي محلها الذي يظل كخلية نحل طوال النهار، فتأخذ قيلولة قصيرة، ثم تعود صافية الذهن، فتشرب قهوتها أمام المحل وتتمتم: «على إجرك يا حليمة…».




    عن الزوجة النشيطة

    يقف عماد أمام زوجته ويمازحها قائلاً: «علمناكي عالشحادة سبقتينا عالبيوت». لكنه مزاح فحسب.
    نجاح سميرة لا يُغضب عماد، ولا يزعجه أن يأتي بعض الزبائن فيسألون عنها، فهو فخور بها، ويؤكد أنه «فوق كل الحساسيات والتنافس، فالمهم اللقمة. أبضاي اللي بيجيب ليرة هاليومين». يمتدح عماد نشاط زوجته، فهي تستيقظ عند الرابعة فجراً، تروي الزهور والخضروات في الحديقة المحيطة بمنزلها، ثم تنزل معه إلى المحل وفي الليل تطبخ وتنظف المنزل. يفتخر بأن الجيران والأصدقاء يحبون سميرة، وأنها تمازحهم، يضحك حين تكيل لهم الشتائم ويبتسم حين يلاحظ أن الزبائن يتقبلون كلامها ولا «يفاصلونها» على كلفة الإصلاح التي تحددها كما يفعلون معه. يهدّدها ممازحاً أنه «سيتزوج عليها» بنت 17 لكنّ شيئاً في النظرات التي يتبادلانها يشي بأن ذلك لن يحدث أبداً...