strong>رنا حايك

عندما اختارت «الأخبار» صورة الطفلة هويدا خالد لوضعها على غلاف الملحق اليومي الخاص بالحرب، كانت تبحث عن رمز يختصر مآسيها. كنا نعتقد أن الدم على الوجه هو حدود المأساة، لكننا اكتشفنا أن الجرح الذي لا ينزف هو الأكثر إيلاماً. فهويدا لا تتكلم. ولا تريد لأحد أن يعرف شيئاً عن معاناتها وكوابيسها التي توقظها ليلاً ولا ترويها لأمها حتى. عذراً هويدا لأننا اقتحمنا حياتك... وعذراً لأننا لن ننفذ رغبتك في عدم إخبار أحد عنك... عن مئات غيرك من أطفال هذا الوطن الصغير

«شو، مين جايي اليوم؟ إذا صحفيين ما بدي شوف حدا». تتكرّر هذه الجملة كثيراً على لسان الطفلة هويدا خالد منذ عام تماماً. منذ فتحت عينها الوحيدة الباقية على الضوء اللاسع لكاميرات الإعلام تحيط بسريرها الملطخ بالدماء في مستشفى رفيق الحريري في بيروت.
آذاها الضوء، وآلمتها الأسئلة التي تدعوها لاستعادة اللحظة الكابوسية: «ما بدي شوف حدا. ما عندي شي قوله».
جملة واحدة قالتها هويدا بإصرار خلال ثلاث ساعات من المقابلة التي أجريناها معها، رداً على سؤال: «ما بدك تقولي شي للإسرائيليين؟». علت نبرتها للمرة الأولى والأخيرة في ذلك اللقاء: «الله يهدّها إسرائيل».
فإسرائيل قد اصطادت أباها داوود وأخويها عبلة (10 سنوات) وأحمد (سنة وثمانية أشهر) وعيناً من عينيها، في التاسع عشر من تموز العام الماضي.
في قرية دبّين، حيث يسيطر الصمت القاتل على الحقول ومراعي البقر، اغتال صاروخان متتاليان أفراد عائلة خالد وبعضاً من طفولة هويدا، صاحبة أحلى عينين خضراوين.
كانت العائلة قد انتقلت خلال أيام العدوان من منزلها لتقيم في منزل أهل الوالد داوود لأنه أكثر أمناً، إلا أن ما بدا حينها هدنة جعل الأب يصطحب أولاده لـ«يشمّوا» بعض الهواء، بينما يستغل هو الفرصة ليطمئن على رزقه من «الطرش» أي البقر كما يسمّونه في تلك المنطقة الجنوبية الحدودية. تروي عمة هويدا، مريم خالد، القصة باقتضاب من يكره استعادة لحظة الفاجعة: «قصدأخي داوود وأطفاله الخمسة بيتهم مع الغروب. ما إن وصلوا حتى سمعنا الصوت، ركضنا كالمجانين نحو المنزل. وصلنا فوجدناهم بالكاد دخلوا، كانت أجسادهم ممدّدة أمام المنزل وفي مدخله. لم يصلوا حتى إلى الصالة. حملنا هويدا وأختيها هدى وفاطمة وكن لا يزلن واعيات، أودعناهن سيارة جارنا لينقلهن فوراً إلى مستشفى مرجعيون بينما دعانا أخي الكبير إلى المغادرة فوراً. فقد أصبحنا نعرف بحكم العادة أن للصاروخ الأول دائماً تتمة. وفعلاً، ما إن ابتعدنا قليلاً حتى وقع الصاروخ الثاني. بعده لملمنا جثث أخي داوود وابنته عبلة وابنه أحمد».
أما عن سؤال: «ماذا رأيت؟»، فجواب مريم يأتي قاطعاً: «ما فيي خبّر، ما بتجرّأ إحكي وعيد المأساة».
مريم، عمة هويدا، هي التي صاحبتها منذ نقلها إلى المستشفى في بيروت حتى إتمام رحلة العلاج الطويلة التي تكفّلت بتأمينها القوات العسكرية الإماراتية في دولة الإمارات ثم الولايات المتحدة الأميركية، فالأم المفجوعة كانت في مستشفى آخر في ذلك الوقت، ترعى طفلتها الثانية، هدى، وتخوض رهان التماسك أمام أبنائها الآخرين فاطمة وعلي وهديل وصورة الزوج الغائب إلى الأبد.
تذكر مريم كيف انقطعت هويدا لفترة طويلة عن الأكل، هزلت كثيراً في تلك المرحلة. كانت جبارة، تحمّلت الألم واستكانت أمام طلبات أطبائها والممرضات خلال فترة العلاج، لكنها مرحلة تبعتها أخرى ازداد فيها خوفها، إلى أن أصبحت اليوم تصرخ كلما لمسها أحد. أصبح «خلقها ضيقاً»، تهرب من الكبار وتحتمي في عالم أصدقائها من الأطفال، تلعب معهم وتلهو وتتذمّر من تنبيهات والدتها وعمتها حول عدم اللعب في الشمس. هي صعبة المراس، تكره مشاهدة الأخبار وتهرب حين تبث التقارير المصوّرة عن الحرب وذكراها. لكنها تبتسم. وابتسامتها ليست سوى فخّ. ابتسامة هويدا تخفي نظرة متوجسة تريد قول الكثير ولا تقول. يتدفق الكلام من عينها الوحيدة قاسياً محتجاً متألماً لكنها لا تقوله. تنظر نحو الأرض باستمرار، ولا ترفع وجهها سوى لتسديد تلك النظرة الثقيلة لكثرة ما تحمل من خوف مرتبك وغضب مكبوت. نظرة تُشعر من يتلقاها بمسؤولية ذنب لم يقترفه وبتضاؤل حجمه أمام حجم معاناة تلك الطفلة. هويدا تشاهد التلفزيون بعين واحدة وأخرى زجاجية، تحب المسلسلات اللبنانية، أحبها إلى قلبها «مرتي وبنتي وأنا»، تتابع توم أند جيري أيضاً. في المدرسة، تلعب مع ابنة عمها وزميلتها زهرة وصديقاتها، أحلى لعبة بالنسبة إليها هي «القفز على الحبلة». قليلة هي الكلمات التي تفوّهت بها هويدا خلال المقابلة، منها أنها تحب ارتياد مدينة الملاهي ولعبتها المفضلة هناك هي «العروس» لأنها تخاف من الألعاب الأكثر خطورة، ومنها الحديث عن أنقاض بيت يصرّ على ملازمة أحلامها. تقول: «أحلم أنني واقفة وحدي والبيت كله على الأرض، فتوقظني أمي».
تؤكد مريم كلام هويدا: «فكوابيس هذه الصغيرة تتكرّر كثيراً. نوقظها ونسألها فترفض الاستفاضة في الشرح. تقول فقط «كتير بيخوّف ما بدي إحكيه»، وتعود إلى النوم».
هذا التمنع عن الكلام يعوق أي حديث يحاول أن يقوم به صحافي مع هويدا لإيصال معاناتها إلى الآخرين. جوابها واحد: «ما بدي حدا يعرف».
لا تريد لأحد أن يعرف. لا تريد استعادة الألم والبكاء على أطلال البيت الذي يعود دوماً إليها في كوابيس لا تنتهي. لا تبوح بحسرة فقدان الأمان، لكنها «تشتاق لأختها الصغيرة عبلة». قطعت صلتها بعالم الكبار الذي استعصى عنفه على إدراكها واختبأت في عالم الأطفال. هل تغادره يوماً؟ يطرح هذا السؤال نفسه حين تجيب أنها لا تعرف ماذا تريد أن تتخصّص حين تكبر، ففي الماضي، كانت إجابتها عن هذا السؤال واحدة: «معلمة رياضة».
الغد لم يعد مضموناً لهويدا، والماضي أصبح أشد إيلاماً من إمكان التصالح معه. في ركن وادع من الحاضر تحتمي هذه الطفلة بما بقي من صمت في جعبتها. صمت يترجم كوابيسَ من الخراب ونظرةً ملتبسة بين الارتباك والخوف والغضب ورفضاً للاحتفال بعيد ميلادها واجهت به عمتها في الثاني عشر من حزيران الماضي.
لكن هويدا، التي تتقوقع في الحاضر، تعجز عن تجميده. فالوقت يمر، وهي تكبر. والعين الزجاجية التي ركّبت لها منذ عام تحتاج إلى قياس جديد بعد سنتين من الآن... في ظل غياب اهتمام رسمي من جانب الوزارات اللبنانية المعنية أو المؤسسات الدولية والأهلية الناشطة في لبنان، قدّمت العائلة طلباً شخصياً لسفارة الإمارات بتغطية تكلفة العملية التجميلية لكنها لم تحصل بعد على إجابة. فهل يستجيب أحد لما بقي من أمل في عيني هويدا الخضراوين؟