نقولا ناصيف
قبل 42 يوماً من بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 24 أيلول المقبل، دخل إليه الأفرقاء المحليون جميعاً من بابه العريض. الرئيس ميشال عون مرشح المعارضة حتى إشعار آخر، وثلاثة مرشحين معلنين إلى الآن من قوى 14 آذار هم النائبان بطرس حرب وروبير غانم والنائب السابق نسيب لحود، إلى مرشحين آخرين من هذا الفريق «مكتومين» يأملون أن يكونوا حلاً وسطاً بين المرشحين الاثنين الأكثر بروزاً وهما حرب ولحود. ومع بدء العدّ العكسي للمهلة الدستورية، تبدو الآمال في إجراء الاستحقاق أقل بكثير من استعداد الأفرقاء المعنيين للخوض فيه بجدية تُفضي إلى إجرائه، لا إلى استخدام المهلة الدستورية كإحدى أدوات ضغط ومناورة متبادلين.
ويستند الضغط المتبادل إلى بضعة معطيات بينها:ـــــ برودة تطبع التحرّك الإقليمي والدولي حيال لبنان، ولا يتوخى مقاربة الاستحقاق الرئاسي كهدف في ذاته، بل كجزء من عناصر استقرار أخرى في المنطقة ترتبط أيضاً بعلاقات ثنائية بين الدول الأكثر اهتماماً أو تورّطاً في النزاع الداخلي اللبناني. وحتى الآن لا يتعدّى كل ما صدر من مواقف عن الدبلوماسية العربية والدولية، في لبنان والخارج، الحضّ على إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. أضف أن المهلة الدستورية لانتخابات الرئاسة اللبنانية تمثّل أيضاً عناصر قلق متبادل بين واشنطن ودمشق حيث تسلك كل منهما حيال الاستحقاق خطاً معاكساً للأخرى. ففيما يراهن الأميركيون على قدرات اللبنانيين في امتحان الرئاسة وإجرائه في المهلة الدستورية دونما تأثير سوري مباشر فيه وفرض رئيس أمر واقع على العلاقات اللبنانية ـــــ السورية من جهة، والعلاقات الأميركية ـــــ السورية من جهة أخرى، يعتقد السوريون أن لا سبيل إلى إجراء هذا الاستحقاق ضمن المهلة الدستورية وخارجها بمنأى عن حوار أميركي ـــــ سوري من غير أن يخلص بالضرورة إلى نتائج مماثلة لتلك التي توصّلا إليها عامي 1988 و1989.
ـــــــ تيقن الأفرقاء المعنيين، بمن فيهم رئيس المجلس نبيه بري، من أن لا نصاب مكتملاً لجلسة الانتخاب في 25 أيلول المقبل، غداة بدء المهلة الدستورية. وتالياً فإن حضور نواب الجلسة لن يعدو كونه تسجيلاً لموقف علني يضمر خياراً آخر، هو أن كلاً من طرفي النزاع يريد الاستحقاق انتصاراً سياسياً له. وما خلا حالات استثنائية رافقت انتخابات الرئاسة اللبنانية، فإن أياً من هذه لم تشهد الاتفاق على الرئيس الجديد من الأيام الأولى للمهلة الدستورية، وفي الغالب لم تعقد الجلسة الأولى إلا بعد أكثر من ثلاثة أسابيع، وفي أحسن الأحوال عمد رئيس المجلس إلى تعيين جلسة أولى سرعان ما كان يؤجلها كي ينبّه الأفرقاء إلى تناقص أيام المهلة الدستورية. بل لعل القاعدة شبه المستقرة في الاستحقاق أن رئيس المجلس يستمهل تحديد موعد الجلسة الأولى بضعة أسابيع بذريعة فسح المجال أمام استنزاف أفرقاء النزاع أوراقهم ومناوراتهم، إلى أن ينهك بعضهم بعضاً، حتى إذا عُقدت الجلسة الأولى تكون إما ثمرة توافق على الرئيس الجديد، أو تسليماً بسدّ أبواب التفاهم، فيذهب الجميع عندئذ إلى معركة انتخابية. وعلى مرّ الاستحقاقات الرئاسية كان ثمة رؤساء توافق كبشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وأمين الجميل ورينه معوّض وإميل لحود فازوا بإجماع أو ما يقرب منه، ورؤساء تحدّ كسليمان فرنجيه وإلياس سركيس وبشير الجميل وإلياس الهراوي فازوا بفارق أصوات. لكن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً (باستثناء فرنجيه)، أن انتخابهم كان من صنع تسوية سرّية أو علنية اشترك فيها أكثر من طرف محلي وإقليمي بغية إمرار الاستحقاق بسلام، حتى في ظل اندلاع حرب داخلية. ولعلّ خشيته من تكرار آخر للتجربة حملت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط على أن يحدس ـــــ قبل سواه ـــــ بتسوية مشابهة تحول دون انتخاب مرشح قوى 14 آذار، فدقّ باكراً ناقوس خطر الانجرار إلى تسوية محتملة، وحذر من الخيانة. بل لعلّه يخشى خسارة مماثلة لتلك التي خاضها والده كمال جنبلاط في استحقاق 1976 عندما تغلّب تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، والسعي إلى هدنة موقتة للحرب اللبنانية تجمّد فوضاها، على الصداقات العالمية التي تسلّح بها الزعيم الراحل.
على قياس كهذا، لن يكون أيلول، وربما النصف الأول من تشرين الأول المقبل، شهر انتخاب رئيس جديد للجمهورية في غياب توافق طرفي النزاع على إجرائه، وعلى اسم الرئيس الجديد.
ــــــ دخول قائد الجيش العماد ميشال سليمان، ضمناً، على خط الاستحقاق من غير أن يُستشمّ من سلسلة المواقف التي أعلنها في الأسابيع الأخيرة، تحت وطأة مواجهات الجيش في مخيم نهر البارد، أنه يرشّح نفسه لمنصب لا يتطلّب ترشيحاً مسبقاً. وفي واقع الأمر بدا ما أعلنه سليمان أمس أقرب إلى موقفه من الاستحقاق الرئاسي لا إلى موقعه فيه. وهي إشارة واضحة إلى أن الرجل استقل بالمؤسسة العسكرية على نحو أبعدها عن الانحياز إلى أي من فريقي الغالبية والمعارضة، أياً تكن خيارات كل منهما من انتخابات الرئاسة. وقد يكون أبرز ما لفت إليه، تشديده على النصوص القانونية التي ترعى وظيفته كقائد للجيش، وأبرزها قانون الدفاع، إذ تحدّد المرجعية ذات الصلاحية في توجيه الأمر إلى قائد الجيش، وهي مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للدفاع. ولا يوازي تأكيده الاستمرار في منصبه، إلا تأكيد مماثل هو أنه لن يتركه إلا بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومن ثم تأليف أولى حكومات العهد، حيث يصار بعد ذلك إلى صدور مرسوم عن مجلس الوزراء مجتمعاً ـــــ لا عن سلطة تنفيذية في واقع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ـــــ ينهي خدماته ويحيله على التقاعد ويعيّن قائداً جديداً للجيش. إشارات كهذه، بعيدة من الاستحقاق، كفيلة بالإيحاء بأن الجيش ـــــ المحايد بين طرفي النزاع ـــــ ليس كذلك حيال الاستحقاق.
ـــــ لم يعد الخلاف على نصاب التئام جلسة الانتخاب مشكلة في ذاته، في ضوء مواقف وضعت سقفاً نهائياً للجلسة، وهو اجتماع البرلمان بغالبية الثلثين لافتتاح الجلسة والدورة الأولى من الاقتراع. ولم يعد الكلام عن انتخاب رئيس بالأكثرية المطلقة يتخطى كونه تهويلاً وتهديداً بغية المناورة وتحسين شروط التفاوض. بل إن الغموض الذي أحاط بتفسير نصاب جلسة انتخاب الرئيس الجديد جلاه نهائياً المرجعان المعنيان مباشرة بالاستحقاق الرئاسي: رئيس المجلس صاحب صلاحية توجيه الدعوة وتحديد موعد الجلسة وفق المادة 73 من الدستور، والمعني خصوصاً بإقران توجيه الدعوة بتحديد النصاب الدستوري لانعقاد الجلسة اقتداءً بالتجربتين الأقرب عامي 1976 و1982، والبطريرك الماروني الذي أصبح لدى الأفرقاء المتنازعين جميعاً ـــــ وأكثر من أي وقت مضى ـــــ المفوّض إليه تحديد الوجهة التي يقتضي أن يسلكها الاستحقاق. والواضح أن سلسلة عظات ومواقف لسيد بكركي رسمت في الأسابيع الأخيرة وجهة نظره من الاستحقاق سواء اتصل الأمر بالنصاب الدستوري أو بالمرشح التوافقي.