إبراهيم الأمين
سوف يمر وقت طويل قبل أن يستعيد اللبنانيون كافة حكاية الانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة في تموز من العام الماضي. وسوف يحتاج اللبنانيون إلى صفاء أكبر حتى يقدّروا حجم ما فعلته المقاومة في شهر من الزمن. وسوف يتطلب اللبنانيون هدوءاً أكبر حتى يدركوا حجم ما تحقق في هذه الحرب الإقليمية ـــــ الدولية التي استخدمت فيها إسرائيل القوة النارية الأكبر ضد لبنان. لكن الأكيد أن إسرائيل بدأت تلمس حجم ما حصل، والنقاش بشأن مستقبل العلاقة مع المحيط العربي ودول الطوق التي تقترب لا محالة من لحظة الصدام الأخير الذي سيتحول حداً فاصلاً كما كان عليه الأمر يوم قامت إسرائيل.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في فرض وقائع جديدة من الحرب على لبنان بعد فشل الحرب العسكرية الإسرائيلية، فإن قوى داخلية قبلت لعب دور الأداة في هذه المعركة، وتورطت قوى بارزة في أدوار لا تتناسب مع أحجامها وقدراتها ومع واقعها السياسي والمادي، وفرضت على نفسها موقع المتواطئ الذي يستجلب تدخلاً إضافياً من الخارج القريب أو البعيد في سبيل التخلص من المقاومة، قوة وتياراً.
ومع ذلك، فإن الدروس الأساسية من حرب لبنان الثانية، كما سمّاها العدو، والحرب السادسة ضد العرب، يمكن تلخيصها لبنانياً بالآتي:
أولاً: إن لبنان تجاوز، وحتى إشعار آخر، قطوع المواجهة العسكرية المباشرة بقصد نزع سلاح المقاومة، وإن استعداد العدو المستمر لمواجهة جديدة يتطلب آليات من العمل العسكري والسياسي، لا يمكن توفيرها بين ليلة وضحاها، والعمل لبناء القدرة العملية على توفير آليات أفضل لمواجهة أي عدوان جديد يتضح يومياً أن إسرائيل تعد العدة له ليل نهار.
ثانياً: إن محاولة البعض نقل لبنان مباشرة إلى موقع المواجهة المفتوحة داخلياً على مشروع المقاومة، تتطلب أدوات سياسية قادرة على فرض التحولات، ولا يمكن تحقيقها من خلال حرب إعلامية تخسر يومياً قدرتها على التأثير في الجمهور الحاضن للمقاومة، لا بل بدأت تترك آثاراً معاكسة لناحية تشكّل عصبية حول المقاومة من زاوية النظر إلى سلاحها كرمز لحقبة ولخيار ولمستقبل.
ثالثاً: إن الرغبة الأميركية في إنتاج وضعية سياسية داخلية قادرة على قلب الطاولة، وإن من خلال العنف أو الفوضى، باتت خياراً يهدد مصالح من تطلب منهم الولايات المتحدة القيام بهذه المهمة، وبات شرط التورط في مغامرة من هذا النوع هو التخلي عن كل ما هو معروف اليوم بمكاسب لدى الفريق الحاكم، ومن خلفه الولايات المتحدة ودول أخرى، عربية وغربية.
رابعاً: إن الاستنفار الطائفي والمذهبي الذي عُمل عليه بقوة خلال العامين الماضيين، لم ينتج حتى اللحظة الأرض المناسبة لخوض مواجهة خاصة. لا بل إن هناك قوى نافذة في الأوساط السنّية، التي تنتظم في غالبيتها الآن خلف تيار «المستقبل»، تناقش منذ مدة وبصوت أعلى مما كان عليه قبلاً، فكرة الفوضى التي تريدها الولايات المتحدة، وتدرك من خلال التوتر القائم في خطاب من هو أكثر تورطاً في المشروع الأميركي، أن هناك من يريد التضحية بها واستخدامها في فوضى وحرب وانفجارات من النوع الذي لا يؤدي إلا إلى الخراب، دون أي نتائج إيجابية.
خامساً: إن محاولة جرّ الجيش إلى توترات من النوع الذي يقوده إلى مواجهة ما مع المقاومة، بدت ضعيفة إلى حدود أن ما يقوم به الجيش الآن في نهر البارد لا يعدو كونه تجربة إضافية في منع الانفجار الأهلي. وأظهرت التطورات المعلنة وتلك غير المعلنة، أن هذه المغامرة التي تقف خلفها قوى السلطة، أدت حتى اللحظة إلى ضرب بنى بشرية وسياسية من النوع الذي كان يعدّ لدور في إشعال الحرب الأهلية في لبنان، وإلى قطع الطريق على أعمال أكبر تقف خلفها قوى عدة، بينها أجهزة استخبارات تابعة لدول «محور الاعتدال».
سادساً: إن محاولة إفراغ التفاهم الذي قام بين حزب الله من جهة والتيار الوطني الحر من جهة ثانية، كانت تهدف عملياً إلى فرض نوع من العزلة على تيار المقاومة من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى جعل هذا الخيار محصوراً بفئة طائفية واجتماعية، والقول إنه لا يمثل خياراً وطنياً. وقد أظهرت نتائج المواجهات السياسية المستمرة منذ توقف الحرب الإسرائيلية، أن هذا التفاهم أنتج وضعية لا سابق لها على مستوى التفاعل المسيحي مع تيار المقاومة، كما أعادت إلى الاعتبار صورة مفقودة لعلاقة الشيعة بفكرة لبنان، وهو الأمر الذي يقوم على آليات لا تشبه البتة الآليات التي قام عليها نظام الإقطاع السياسي والطائفي الذي حكم لبنان خلال خمسين عاماً.
سابعاً: إن الدور الاجتماعي والإنمائي الذي قام به حزب الله لمحو آثار العدوان، فتح الباب، لأول مرة، على العلاقة الملتبسة بين أبناء الضواحي والأطراف وبين الدولة. وحتى لعبة العقاب التي تقوم بها أطراف في الدولة لم تؤت ثمارها، بل أدّت دوراً سلبياً يجري التعويض عنه الآن من خلال العودة إلى تسريع عملية دفع التعويضات من جهة، وتبني البرنامج الذي سوف يتوافق في نهاية الأمر مع برنامج الإعمار الأهلي الذي حقق نقلة نوعية في ملاقاة حاجات الناس مع القدرات المنطقية والأكثر واقعية، دون تجاهل كل الاعتبارات المهنية التي تبقي الصلة بالقانون العام قوية، وتجعله خياراً طوعياً مقابل كل زمن الفوضى والعشوائيات.
ثامناً: إن موقع لبنان الخارجي بات الآن رهن توازن داخلي وخارجي، ويتصل أكثر بحسابات الجميع دون أن يقتصر على فريق وحده. وإن هذا الموقع سوف يكون مرتبطاً أكثر بنتائج المواجهة التي جرت في العام الماضي من جهة، وبالبرنامج الأميركي ـــــ العربي للمنطقة، ولبنان من ضمنها. ولم يعد بمقدور أحد في لبنان أو خارجه الحديث عن عزل لبنان وربطه بما هو غير قادر على الالتصاق به.
وحتى يتمكن كثيرون من الإقرار أمام أولادهم بأن ما حققته المقاومة خارج لبنان لهو أكبر بكثير مما تحقق داخلياً، فإن العمل على بناء الجبهة الداخلية سوف يظل مهمة رئيسية للتيار الذي يحتضن المقاومة. وهي مهمة تتجاوز الجوانب التقنية والرسمية وغيرها، إلى ترتيب آفاق لعلاقات منطقية بين جميع اللبنانيين، وسط إدراك طوعي بأن المقاومة ليست خياراً فوقياً أو خياراً غريباً.