strong> بلال عبود
أبناء الدول الفقيرة المهاجرون إلى بيروت يتجمعون في أماكن وأحياء معينة، الزيارة إلى تلك الأماكن تدفع الزائر إلى الشك في مقولة أن الهجرة وسيلة يسعى الإنسان عبرها لتحقيق حياة أفضل. يجذب لبنان العديد من المهاجرين من دول مختلفة، وخاصة الأفريقية، يصلون إليه هرباً من خطر ما أو بحثاًَ عن تحقيق حلم.
خلف مستشفى الزهراء في منطقة الجناح البيروتية، يسكن العشرات من أبناء الدول الأفريقية، وخاصة من السودان وإثيوبيا. يستأجرون بعض الغرف في الحي الذي أصبح يُعرف لدى أبناء الجناح باسم «حي السودانيه»، وهو على أي حال يشبه أحياء الفقراء المحيطة به، حيث البيوت متلاصقة وصغيرة الحجم وبناؤها غير منظم.
يعود تاريخ وجود العمال الأفارقة في هذا الحي إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أي حين بدأ العمل ببناء مستشفى بيروت الحكومي (مستشفى رفيق الحريري). وقد شارك في عملية البناء المئات من العمال الأجانب، وبشكل أساسي من السوريين والسودانيين، لذلك استأجروا مساكن فقيرة في الحي لقربه من المستشفى. وبعد انتهاء العمل في المستشفى، غادر بعض العمال ليسكنوا في أماكن أخرى أقرب إلى مكان عملهم الجديد، لكن غالبية العمال فضلوا البقاء في الحي، لأنهم اعتادوا الحياة فيه، إضافة إلى تميز موقعه الجغرافي، فهو قريب من الأحياء البيروتية الأخرى ومن مناطق مجاورة للعاصمة.
ينطلق محمد جبر عثمان (سوداني ـــــ 26 عاماً) إلى عمله في منطقة برج حمود يومياً عند السادسة صباحاً، يستقل أكثر من باص كي يصل بأقل كلفة ممكنة. يعرف محمد أن الوضع في لبنان مقلق هذه الأيام، لكنه «يبقى أحسن من وضع بلدي: وضع لبنان ألف رحمة أمام الحالة في السودان». يرتاح محمد في الحي الذي استأجر فيه غرفة، يتشارك الحياة فيها مع عاملين آخرين من أفريقيا أيضاً، حيث يتقاسمون الإيجار ويتشاركون أيضاً في دفع ثمن الأكل ومستلزمات الحياة. لا يختلط الشباب السودانيون كثيراً بأبناء الحي، فعلاقتهم تنحصر بصاحب الدكان الذي يشترون منه حاجاتهم، وخاصة أنهم يعودون من العمل في ساعة متأخرة.
يعدد مالنج يالديت، وهو من جنوب السودان، أسباب هجرته إلى لبنان منذ عام 1997، يذكر بداية أنه عانى التمييز الذي تمارسه السلطة الحاكمة في شمال البلاد ضد أبناء الجنوب السوداني، وهي الممارسة التي يسميها «عنصرية المناطق، وإن كنا من لون واحد»، يضيف صديقه إسماعيل المدني أن العنصرية تمارس أيضاً ضد أهالي إقليم دارفور، لكنه يوضح «أن وضع الجنوب أسوأ بكثير».
يرى مالنج في لبنان وطنه الثاني، فهو يعيش فيه منذ عشر سنوات، ورغم تعرضه لمشاكل كثيرة، إلاّ أنه يحب هذا البلد «لأنه استقبلني وفتح لي أبوابه»، وجل ما يتمناه مالنج «لو أن بعض اللبنانيين يقدرون الظروف التي يمر بها، فظروف المهاجر الأفريقي صعبة جداً، وهو لا يعمل إلا في أعمال التنظيف أو خادماً في الفنادق أو ناطوراً»، حتى إن الكثير من الأفارقة في لبنان من حملة الشهادات، لكن لا أحد يأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، ويعتقد إسماعيل أن لون البشرة هو ما يدفع اللبنانيين إلى اعتبار الأفريقي غير قادر على القيام بوظائف مكتبية وغيرها «فالأسود يُنظر إليه على أنه جاهل أو أُمّي».
يسكن إسماعيل في شقة في منزل مؤلف من أربع غرف، يعيش مع ثلاثة سودانيين لكل منهم غرفته.
وهو إذا ما قارن وضعه المعيشي مع زملائه في الحي فسيصنف واحداً من أبناء الطبقة الوسطى. وياسر هو أحد الشباب الذين يعيشون مع إسماعيل في هذا البيت.

أشكال التعذيب

يروي ياسر أنه تعرض لعملية نصب من أحد اللبنانيين، كان ذلك عام 1999، أي بعد مرور سنة تقريباً على وصوله إلى بيروت. عمل لمدة شهر في أحد المطاعم، ولم يعطه صاحب العمل راتبه، ويقول: «لم يكن بإمكاني الاستعانة بالشرطة لأنني دخلت لبنان خلسة في ذلك الوقت، وكان صاحب العمل يعرف هذا الأمر». يلفت ياسر إلى أن المشكلة الرئيسية التي يواجهها هو وزملاؤه تكمن في تعرضهم للاستغلال من صاحب العمل، فهم يعملون نحو 14 ساعة يومياً، ويتقاضون راتباً ضئيلاً جداً لا يساوي الحد الأدنى للأجور، «إضافة إلى ذلك فنحن دائماً في موضع الاتهام ومعرضون للتوقيف فقط لأن لون بشرتنا أسود».
يسرد مصطفى أحمد تفاصيل حياته اليومية منذ أن وصل إلى لبنان عام 1998، يستيقظ منذ الفجر، ثم ينطلق إلى عمله في سوبر ماركت يبعد عشرات الأمتار عن بيته، يعمل فيه «حمالاً يساعد الزبائن في نقل أغراضهم» ولا يتقاضى سوى البقشيش الذي يعطيه إياه الزبائن، ولا يدفع له صاحب العمل راتباً. يعود مصطفى بعد الظهر إلى البيت ـــــ الغرفة، ويكون أول الواصلين حيث يمضي ما يبقى من الوقت قبل وصول «إخوانه» في القراءة وتحضير الغداء.
عتب مصطفى على حكومة بلده كبير، ويقول إنها مقصرة، «فهي لا تسأل عن مواطنيها، وكأننا نكرة»، ويضيف أن سفارة السودان لا تقدم أية مساعدة لمن يواجه مشكلة «لأنها ترانا عالة عليها». تشابه المشاكل والمآسي هو ما دفع العمال الأفارقة في لبنان إلى الالتفاف والتكاتف مع بعضهم، ويؤكد مصطفى أنهم «ليسوا منغلقين على المجتمع اللبناني، لكن واقع حالنا يفرض التقيد في التواصل مع اللبنانيين». لم يكمل مصطفى دراسته في الحقوق، أنهى السنة الجامعية الثانية ووضب أغراضه وهاجر من بلده «فظروف الحياة تجبر الإنسان على ترك ما يحب بحثاً عن الرزق». في السوبر ماركت يقيم مصطفى علاقات صداقة مع بعض اللبنانيين الذين يشاركونه العمل نفسه ويعانون الظروف المعيشية نفسها، وهذا ما يجعلهم أقرب إليه من الموظفين الآخرين.

السياسة مرة أخرى

مشكلة أبناء السودان مع حكومتهم يردها السودانيون إلى الوضع السياسي المتأزم في البلاد «فإذا كنت من الشمال فلن تواجه أي مشكلة، أما أبناء دارفور والجنوب فلا أحد يعترف بهم» وفق ما يؤكده إسماعيل، فكثيراً ما يوقَف سودانيون بسبب مخالفتهم لشروط الإقامة في لبنان أو بسبب «مشكلة في الأوراق، لكنهم يبقون في السجون اللبنانية لفترات طويلة، بعضهم سُجن لأكثر من خمس سنوات بعدما أُوقفوا بسبب جنايات لا تتعدى عقوبتها السجن لشهرين».
عبد العزيز عامل أفريقي، يقول إن شقيقه أمضى فترة تجاوزت 18 شهراً في قبو سجن رومية قبل أن يُرَحَّل إلى السودان في ظروف غير إنسانية، وكان قد أُوقف بسبب مشكلة في أوراق إقامته في لبنان.

تحت أنقاض بيروت

يروي بعض الشباب السودانيين أخباراً عن إخوان لهم قضوا في حرب تموز الأخيرة أو فقدوا ولا أحد يعرف مصيرهم أو يسأل عنهم. وهناك من حاول الهرب عبر سوريا وأُوقف هناك، فيما قُتل آخرون في قصف بعض المناطق اللبنانية وأُدرجوا تحت اسم «مجهول الهوية». يؤكد إسماعيل أن هذا الاسم هو أكثر ما يعبر عن حالة الأفريقي في لبنان، إلا أنه رغم الكثير الذي تعرض له ما زال يرى في لبنان موطناً ثانياً يحترم أهله وكل ما يتمناه أن يعامل كضيف، «نحن في السودان إذا جاءنا ضيف يصبح هو صاحب البيت».
تطغى الخلافات السياسية في السودان على جلسات الشباب السودانيين في لبنان، وكل منهم يرد أسباب المشاكل إلى دول خارجية معينة ويهاجم الدول الأخرى. ويبرز نقاش آخر عن انتماء السودان الأفريقي أو العربي، بالنسبة إلى مالنج (من جنوب السودان) يقول «إننا أفارقة والعرب هم جيراننا الأقرب»، وهو لا يعترض على هوية السودان العربية، لكنه يقول بأن خريطة الدول العربية في شمال أفريقيا تمتد من الشرق إلى الغرب، ووحده السودان يأتي في جنوب هذه الدول، هنا يقاطعه إسماعيل المدني ويؤكد أن السودان بلد عربي منذ بداية التاريخ لغة وحضارة وديناً، وهو بوابة العرب إلى أفريقيا، ويضيف أن السودان بحالته المميزة هو صلة وصل بين العرب وأفريقيا.




نظرة قانونية ويحدد القانون الحالات التي تلغى فيها إجازة العمل وهي عند ظهور مستندات غير صحيحة، أو كلما قضت مصلحة اليد العاملة اللبنانية بذلك، عملاً بإعطاء تفضيل العامل اللبناني على غيره. ويشترط القانون على المؤسسات التعهد بتدريب اللبناني على العمل بدلاً من الأجنبي.
ويتم سحب رخصة العمل من الأجنبي أيضاً في حال مخالفته شروط الموافقة المسبقة لإجازة العمل إذا حكم عليه بإحدى الجنايات أو الجرائم الشائنة، وفي هذه الحالة يُرَحَّل الى بلده ويتم إصدار بلاغ منع دخول دائم بحقه، لأنه بذلك يكون قد خالف شروط الإقامة أيضاً.
يجب على العامل الأجنبي أن يحصل على الإقامة المؤقتة إذا كان دخوله إلى لبنان بسمة عمل خلال ثلاثة أشهر من وجوده في لبنان، على أن تتوافر فيه شروط معينة تتعلق بالعمر وعدم ارتكابه أي جرم يعاقب عليه القانون اللبناني، وعلى أن يكفله صاحب عمل لبناني يتعهد أن يكون الترحيل على نفقته إذا خالف العامل الأجنبي شروط الإقامة.
يوجد في لبنان اليوم آلاف العمال الأجانب المخالفين لشروط العمل والإقامة، وبعضهم ينتظر تنفيذ قرار الترحيل بحقهم وهم موزعون على السجون اللبنانية.
ويعترض حل مشكلتهم عدم اهتمام حكوماتهم بهم بالإضافة إلى عدم تمكُّن الحكومة اللبنانية من معالجة مشاكل مواطنيها فكيف بمشاكل الأجانب.