أنسي الحاج
  • ذهبٌ عتيق

  • «قولي أحبكَ
    لا تملّي
    فالصمت عنوان التخلّي (...)
    لي في سماعكِ نشوة الصوفيّ
    في غمر التجلّي
    ولكلِّ بوحٍ لذةٌ
    بكرٌ كفجرٍ مُستهِلِّ
    قولي أحبكَ
    نغّميها
    في فؤادي المضمحلِّ...».
    ***

    مقاطع من أغنية لفيروز تعود إلى مطلع الخمسينات، على ما يرجّح الفنان والكاتب محمود زيباوي، الخبير الكبير في ريبرتوار فيروز والرحابنة والذي تحوي مكتبته الموسيقية، هو ونفر من المتتبّعين الشغوفين في الأقطار العربية، ما لم يعد متوافراً من أعمالهم.
    يقيم محمود في باريس، وكلما عاد إلى بيروت يحمل لي هدية هي تسجيل لأغنيات من نادر فيروز، لا أعرف كيف يتدبرها، وأغلب الظن من برامج إذاعة دمشق، وأرشيفها هو الأغنى. آخرها قرصان أحدهما من قديم فيروز الرحبانية، وجوهرته أداء لأغنية «بكرا بيجي نيسان» بتوزيع مختلف عن الأغنية المعروفة، أبطأ، تُدندن فيه فيروز جزءاً من اللحن دندنة أشبه بالهدهدة، تطغى بعذوبتها على حلاوة الباقي.
    أما القرص الآخر فمن بدايات البدايات، أي مرحلة ما قبل الأخوين رحباني، وسيّدها كان حليم الرومي. ومن رفاقه في التلحين لفيروز ذلك العهد، نقولا المنّي وخالد أبو النصر وسليم الحلو. وبدت لي أغنية «قولي أحبكَ» أجملها، يطل فيها الصوت كبدرٍ يملأ الفضاء.
    فيروز الناشئة تُنشد بحنجرة امرأة متمكّنة. نضارة وردة الصباح مع لواعج الحبّ في تراميها، يحتضنها لحن عرف كيف يُبرز دفء الصوت وتلألؤه. لحن يشيع الرهبة، احتفاليّ سريع، حزين ومرعش كاستغاثة متكبّرة.
    لم نعرف، لا محمود ولا أنا، من هو صاحب الشعر ولا من هو صاحب اللحن. في البدايات لحّن لها الرحبانيّان العديد من قصائد قبلان مكرزل، بينها «حبّذا يا غروب» التي قد تكون أول ما لحّنه لها عاصي.
    ولكن من مراجعة ديوان قبلان مكرزل لم تظهر «قولي أحبكّ».
    تحف صغيرة كهذه تملأ الطرقات في مسيرة فيروز وليس من يجمعها. مبعثرة، إذا وجُدتْ، بين محفوظات الإذاعات وإدارات المسارح والمهرجانات، كثير منها لا تذكره فيروز نفسها ولا منصور، فقد كانت أغاني تلك الحقبة تذاع أحياناً على الهواء مباشرة دون تسجيل. وكان الإنتاج بغزارة لا تُصدَّق.
    لو أمكن جعل الأصوات منطقة ثقافية على غرار الأماكن لانبغى للأونيسكو أن تبسط حمايتها على التراث الفيروزي وتنظّم حملة لجمع أغنياتها. إننا هنا حيال كنز حقيقي مجهول. والتقدير الذي حظي به هذا التراث تقدير عالمي، لكنه لم يكن دوماً في المحل المطلوب، بل أُهدِر غالباً في التكريم الاجتماعي والمظاهر. وكادت فيروز تُجعل رمزاً سياحيّاً لفرط تسطيح الكلام عنها، بينما يشكّل صوتها ظاهرة تتجاوز حدود القاموس التقني والأكاديمي لتدخل في المعاني النفسية والروحية ذات الغنى المتشعّب والأبعاد الغامضة.
    يستحقّ موضوع هذه الأبعاد أكثر من بحث في العلاقة بين الحسّي والصوفي، بين كهرباء الصوت ونوعيّة الدوائر التي تحرّكها هذه الكهرباء في بحيرات النفس، وأكثر من بحث في تلك الصورة التي يرسمها صوت فيروز على مدى مسيرته، صورة الصبيّة التي ترتمي من حلمها إلى حلم الحالمين بها دون أن تنفصل عنها ولا لحظةً غلالةُ الحلم...

  • القارئ الأخير

  • في العدد الجديد من مجلة «شرفات» السورية تورد مديرة تحريرها عزيزة السبيني ما خلُص إليه تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: نسبة ما يقرأه الفرد العربي في العام هو ست دقائق فقط... ويذهب معظمها لمطالعة الكتب الدينيّة.
    تختم عزيزة السبيني: «وتبقى المسألة أولاً وأخيراً متعلقة بالقارئ الرسمي، أي القارئ الذي لم يعد موجوداً إلا على مقاعد الدراسة».
    من ست دقائق، ثوانٍ للأدب فُرضت فرضاً على الأولاد.
    ولو خُيّروا لأفلتوا منها.
    واقع «تتميّز» به العربيّة، ولا نجد مثيلاً له في اللغات الغربية. الأدب فيها حيّ أكثر من حيويات «اللغات» الإعلامية، وحتّى السينما لم تستطع حجبه.
    حيث العقل حرّ لا شيء يموت.

  • «أتركُ...»

  • «أتركُ النسيان في غرفتي
    أتركُ ابتساماتي التي وزّعتُها على المرايا (...)
    أتركُ ما أحببت كثيراً
    ما كان في مَيَلانه خافقاً
    ما تدلّل بين يديّ (...)
    أتركُ ضحكتي
    أتركُ ما أحببت كثيراً
    لأنني دائماً ما أُكتَشَفُ في غيابي».
    (لينا الطيبي ـــ من «أهزّ الحياة»).

  • الجديد هو الخلق

  • الجِدّة تكون بالبصمة الطبيعيّة أو تكون مُضحكة. لا يقصد المجدّد أن يجدّد بل أن يكون ذاته. أن ينأى عن التأثر ما أمكنه نحو حقيقته، نحو ما نسمّيه أصالته. كل مبتغى الكاتب أن يكون صوت نفسه. هذه هي إضافته أو اختلافه، هذا هو صنيعه أو جديده.
    ينهوس الفرنسيون بالتجديد على قاعدة أن ما عرفوه صار بائتاً، وإن لم يبتكروا فوراً ما ينعشهم هلكوا. الحركة الأدبية السابقة زوجة والمطلوب عشيقة جديدة. كثيرون منّا نحن المتخرجين من الأدب الفرنسي مصابون بالهوس ذاته: «لقد توقّفنا، نجترّ الموضوعات نفسها. نكتب بالأساليب نفسها. حداثتنا ادّعاء باطنه قديم. لا فرق بين ما نكتبه وما كتبه الأقدمون غير التخلّي عن الـــــــــوزن والقافية. لا تزال حركة التجديد متوقفة عند مجلة «شعر». في الرواية نقلّد وليس عندنا نقد. الصحافة خطفت الأدباء وسطّحتهم. كلّ من صـــــــفّ ثلاث كلمات وتحتها كــــلمة اعتبر نفسه شاعراً حديثاً. والجنس آخر الصرعات. جنس الكاتبات خصوصاً، والخليجيات بالأخص، فوضى ولا شيء. باطل الأباطيل...».
    في هذه المرثية المألوفة شيء من الصواب، لكنّها موضوعة تحت عنوان خاطئ هو أزمة التجديد. الأمر ليس هكذا. ما يُشكى منه ظاهرة مرافقة لكل العصور ولا تتّصل بالتجديد، بل بجودة الكتابة. المشكلة هي في الضعف، الإسفاف، الضحالة، خواء المعنى، هزال التجربة، وليس غياب التجديد. الكتب تنهمر على الأسواق وفيها طرافة وجدّة واجتهادات، وتبقى الضّالّة في الحجر الذي يخضّ البرْكة. لا خضّة كسر مزراب العين بل خضّة «الظهور».
    وهذا لا يحصل كلّ يوم. سوفوكل وأشيل وأوريبيد لم يتكرروا. هيراقليط واحد أحد. منذ شكسبير لم يعرف الإنكليز شكسبيراً آخر. خرج من فرنسا بودلير ولم يعد. ساد، رمبو، لوتريامون، بلزاك، نوفاليس، دوستيوفسكي، نيتشه، رافائيل، ميكل انج، دافنشي، باخ، موزار، بيتهوفن، فاغنر، فردي... لم يأت أحد من هؤلاء لأنه «أراد» أن يجدد، بل لأنه تلبية لنداءَي الحاجة والضرورة. تستطيع البشريّة أن تحيا على تراث العباقرة دون شعور بالنقص. لم يحصل تجديد بسبب شعور نقص عدم التجديد، بل بسبب ولادة صوت جديد كان لا بدّ له أن يَطْلَع. القَدَر لا يُصنع، كما يشاع، بل يتحقّق. الحادث المهمّ هو الخَلق لا التلميع. الدهشة الدائمة يحدثها جديد الخَلق لا ألاعيب مراوغة الملل. ليس هناك أي أهميّة لموجات الابتكار. تعاقبت على فرنسا، مثلاً، ومنذ خمسين سنة، عشرات الحركات التجديديّة ولم يبق منها شيء. التجديد، في معناه الأصلي، نفض القديم. الخلق ليس نفضاً للقديم، بل هو حضورٌ فجأةً لما لم يعد غيابه محتملاً.

  • امرأة واحدة

  • رائحة جِلدكِ ماءٌ وهواء. يمرّ الزمن بدونكِ أطول من الصحراء.
    عريُكِ يَرى
    وفي عريكِ الذي يَرى حجابٌ لراغب التخفّي. نهرٌ لقاصد الانجراف وشاطئ لناشد التأمّل. لكِ ستائر تُماشيكِ كظلّكِ، منسوجة من براءتك الشهوانيّة. امرأة واحدة لا تنتهي.
    رائحةُ جلدكِ ماء وهواء
    والباقي حلم لا يُباح به، لكنّه يعاش، يُعاش بتكرارٍ دائمِ التجدّد خلْف أسوار قَصر النَّهَم.