strong>كمال شعيتو
أراد سامي أن يتخلص من منزله حيث كان والده يربطه بالجنازير ويضربه مع أشقائه ويتحرش بابنته البكر، فارتأى أن الوسيلة الفضلى للابتعاد عن واقعه المرير هي السرقة وتسليم نفسه للدرك «وهيك بخلص من الحياة القاسية يللي كنت عم عيشها»

«من أول ما وعيت كنت شوف أمي وبيّي عم يتخانقوا»، فوالده كان يدأب على شرب الكحول والجلوس في المنزل، إذ هو لا يعمل معظم الأوقات «بطبيعة الحال»، فيما أم سامي كانت تعمل في خدمة المنازل كي تتمكّن من إطعام أولادها. يقول سامي بصوت تملؤه غصّة: «كتير أيام أنا واخواتي بنّام جوعانين لأنو ما كان في شيء ناكلوا. واذا انوجد شي، كان الفول المطبوخ»، اذ إن والده كان يطبخ الفول أحياناً ليبيعه. يتابع سامي: «أكل الفول أمرضني وإخوتي، فكنّا ندخل الى مستشفيات تعيسة، حسب مقدرتنا المالية، وقال أطباء إننا مصابون بالتلاسيميا وآخرون قالوا سرطان الدم».
يبلغ سامي حالياً 18 سنة، وهو لا يذكر من طفولته غير كوابيس يقظةٍ رسمت في عقله قساوة الحياة وحرمته هناء الطفولة الذي يقال ان الاطفال ينعمون به، والذي أوصت به المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الطفل. وهو لا يعي منذ نضجه غير صورة الحي الضيق الذي كان يقطنه في صيدا، حيث تكوّن المياه الآسنة مَعلماً بارزاً ودائماً. وعاش طفولته متنقلاً من منزل بائس إلى آخر أشد بؤساً.
الهرب إلى... السجن
والد سامي أرغمه لدى بلوغه العاشرة على ترك المدرسة كي يعمل للقيام بأعباء مسؤولية أشقائه، فعمل في بعض الورش من السابعة صباحاً حتى السابعة مساءً، ثم انتقل الى جمع الخردة والألمنيوم من مكبات النفايات لأنها مربحة أكثر. يقول سامي: «كان أبي يضربنا انا وأشقائي، وكان يربطني بالجنازير ويتحرش بأختي الكبيرة بينما أبقى عاجزاً عن حمايتها». واقعٌ مرير دفعه للهرب من المنزل والنوم على قارعة الطريق وداخل هياكل السيارات المتكسرة، حيث تعرف إلى مجموعة من الفتية علموه التدخين وشرب الكحول وشم مادة التينر، إضافة الى تعاطي الحبوب المخدرة والسرقة حتى أوقفته القوى الأمنية ليصدر الحكم الأول بإدخاله معهد الإصلاح «حيث يجري تلقينه الدروس وتدريبه على المهن والإشراف على شؤونه الصحية والنفسية والاخلاقية» كما نصت المادة 13 من قانون حماية الاحداث المخالفين للقانون او المعرضين للخطر الصادر في حزيران 2002.
...علماً أن واقع الاصلاحية ليس مطابقاً لما ينص عليه القانون، فعديد الاساتذة لا يكفي ومصانع التدريب مقفلة نتيجة انعدام التمويل الرسمي، وهذا ما انعكس ايضاً على عدد الأحداث المقيمين في الاصلاحية ليبلغ 20 فرداً في حين ان المعهد معدّ ليتسع لـ 80 فرداً. وقال لـ«الأخبار» مصدر مطّلع على أحوال «اتحاد حماية الاحداث في لبنان»، الذي يدير معهد الاصلاح، إنه يتعذر في أكثر الأحيان على الاتحاد دفع رواتب من بقي من أساتذة المعهد (بعدما غادر المتخصصون منهم) مما يؤثر على عطاءاتهم وطريقة التعاطي مع الاولاد.
هرب سامي من الاصلاحية ليعود الى حضن «الشلة»، لكن سرعان ما أوقفته القوى الأمنية وأودعته هذه المرة قسم الاحداث في سجن رومية لإنهاء محكوميته، حيث تعمل جمعيات غير حكومية على تأهيل المراهق نفسياً وتربوياً واجتماعياً. وبعد مضي فترة حكمه، خرج سامي الى الحرية، وعاد الى شلته والى واقع عائلته ليستعيد ايقاع حياته الأليم، على عكس ما كفلته المواثيق والمعاهدات الدولية («تعترف الدول الأطراف بأن لكل طفل حقاً أصيلاً في الحياة وتكفل إلى أقصى حد ممكن بقاء الطفل ونموه». المادة 6 من اتفاق حقوق الطفل). وبعد فترة، رأى سامي أن أفضل ما يخلّصه من الحياة التي يعيشها هو أن «أسرق وأسلّم نفسي للدرك» وهذا ما حصل فأودع سجن الأحداث في رومية.
الخروج نحو الأمل؟
داخل السجن، تابعت احدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية حالة سامي من خلال مرشدة اجتماعية، فتبين أنه استطاع تخطّي محكوميته باستغلال نشاطات تعيد الثقة بالنفس وتقوّي الشخصية. وحاز سامي شهادة تعليمية من خلال صفوف «تقوية مدرسية»، فضلاً عن مشاركته في ألعاب رياضية. كذلك نال شهادة في الحلاقة الرجالية، وهو الحلم الذي راوده منذ صغره. وخلال فترة المحكومية، حصل على مساعدة اختصاصية نفسية خففت عنه من وقع معاناته، وتعرّف إلى مرشدة اجتماعية أخرى تعمل خارج السجن زارت منزله حيث علمت بموضوع شقيقته الكبرى، وأعلمته وأمه بأن لا حل لموضوع التحرشات إلا عبر القانون، مما دفع الأم الى تهديد زوجها بإقامة دعوى اذا استمر بالتعرض لابنته، فكان أن غادر المنزل تحت وطأة التهديد. ومع انتهاء المحكومية وعلم المرشدة الاجتماعية بأمر مشكلة سامي الصحية، أجريت له الفحوص في مركز لعلاج سرطان الدم حيث تبيّن أنه غير مصاب بالسرطان أو التلاسيميا بل «عندي مشكلة من كتر أكل الفول، وهيك كمان اخوتي». أما إدمانه فقد عولج في مركز اختصاصي.
أكمل سامي مشوار حياته الجديدة، وكان في صدد افتتاح صالونه الخاص للحلاقة بمساعدة احدى المؤسسات الخيرية، أما شقيقته فهي تتدرب الآن في صالون للتزيين النسائي وستتبرع لها احدى المؤسسات بفتح صالون. يشكر سامي الأشخاص الذين ساعدوه في مركز مؤسسة الرعاية وفهموه وأصغوا الى همومه «من دون ما يصرّخوا عليّ ويلوموني.... خلص صار فيني اعتمد على حالي».
كلام سامي جاء في نبذة عن حياته قبل السجن وبعده أنتجتها مؤسسة الرعاية الاجتماعية التي تابعت حالته عن كثب. ولدى محاولة «الأخبار» البحث عن مكان سامي، علمت أنه أعيد الى رومية منذ نحو أربعة أشهر بعد مشاركته «الشلة» في سرقة أحد الدكاكين. وبالمتابعة، تبين أن صاحب الدكان تنازل عن دعواه بحق سامي وهو ينتظر الإجراءات القانونية لإصدار الحكم النهائي. ومع عودة سامي الى السجن، أسئلة عديدة تطرح حول فاعلية نظام الاصلاح. فرغم عمل جمعيات الرعاية على الصعيد النفسي للاحداث وعلى مشروع حياتهم الجديد في سبيل دمجهم بالمجتمع، فإن صعوبات تبقى قائمة في ظل غياب أشخاص أساسيين (المتخصصون) في فريق عمل الجمعيات، مما يجعل العمل الفردي مع كل حدث على حدة صعب. ومن العوائق الرئيسية كذلك، عدم وجود إمكانات لمتابعة الحدث خارج السجن على نحوٍ كافٍ، مما يشجّع الاحداث على معاودة مخالفاتهم للقانون. إضافة الى ما سبق، فإن تقصير السلطة في تقديم الدعم المالي لجمعيات الرعاية يدفع بعض هذه الجمعيات للاستعانة بعدد من المتطوعين غير المتخصصين.