غسان سعود
اتهامات الكتائب «فرعية» أم «قلوب مليانة»؟ وكيف تبدو بكفيا من «عرزال الزعيم»؟

عندما ارتفعت لافتات «القاتل واحد من بشير الى بيار»، في تشييع الوزير بيار الجميل، بعدما تبنى الرئيس أمين الجميل «نظرية» الربط بين الحزب السوري القومي الاجتماعي واغتيال نجله بالقول «ان القومي مذنب حتى تثبت براءته»، وصولاً الى التعاطي خلال انتخابات المتن الأخيرة مع الأصوات «القومية» وكأنها غريبة عن المنطقة، واتهام القوميين، بحسب آخر صيحات «الموضة» اللبنانية، بأنهم «حالة سورية شاذة ينبغي استئصالها من المتن»، بات كثيرون من أبناء الجيل الجديد يعتقدون بأن الحزب المستهدف طارئ على المنطقة لا يربطه بها دين ولا مذهب ولا هوية، وخصوصاً بعدما ترافقت الاتهامات مع مداهمات لمنازل قوميين وعدد من مراكزهم، وكثر الحديث عن الأسلحة «المضبوطة» ونوعيتها وكميتها ومجالات استخداماتها.
لكن اللبنانيين من الأجيال الأكبر، وعموم المتنيين، يعرفون أن ما بين الحزبين الأكبر والأعرق في المتن: القومي والكتائب، صفحة من الوئام ومجلدات من الخصام، ويعرفون أكثر واقع القوميين وموقعهم في المنطقة ساحلاً ووسطاً وجرداً، وهذا ما يظهر بوضوح في كثير من شوارع المنطقة وساحاتها ومنازلها.
فـ«الحالة السورية الشاذة»، في ضهور الشوير، مثلاً، هي الكبير والصغير من أبناء البلدة، حيث لا يكاد يخلو منزل من «الزوبعة» الحمراء، وتدور على كل شفة ولسان، حتى في أحاديث النسوة الصباحية حول ركوة القهوة، أقوال مؤسس «القومي» أنطون سعادة الذي ولد في الأول من آذار عام 1904 في الشوير وأسس منها لانطلاقة نواة الحزب الأولى بعد أقل من ثلاثة عقود في 16 تشرين الثاني 1932.
ويقول مسنّ شويري إن «بكفيا تبدو من عرزال الزعيم مجرد نقطة صغيرة في الجبل المتني»، مضيفاً «أن فهم مقولة الزعيم إن الحياة وقفة عز، شبه مستحيل من دون المرور بهذا العرزال المطل على المتن كله تقريباً، والذي كان النقطة المثالية لاختلاء الزعيم بنفسه وإعادة ترتيب أفكاره. ومع أفكار سعادة وتراثه، تبدو الشعارات الكتائبية، والقرع المستمر لطبول الحرب على القومي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سخيفة وبلا معنى من جهة، ومن جهة ثانية تشد القوميين إلى حزبهم الذي اتسم بالسرية منذ نشوئه، وتوسع وكبر في ظروف ضاغطة».
ومن بلدة المؤسس الى الجارة الجنوبية لبكفيا، بيت شباب، حيث لا يقل الاستغراب لـ«تغريب» القوميين. وتشكو سيدة قومية، باستهجان كبير، من أن شقيقتها الكتائبية نسيت أنها ابنة أمها وأبيها واتهمتها فجأة بأنها سورية، وبأن انتخابها غير الرئيس الجميل يعني أنها «عميلة للإيرانيين وغريبة عن المتن وتقاليده». فيما يؤكد أحد شيوخ البلدة ان القوميين «فاعلون في المتن منذ عام 1932، أي قبل تأسيس حزب الكتائب بأربع سنوات، وقبل أن يولد الشيخ أمين»، مستعرضاً لائحة طويلة من أسماء العلماء والأدباء والمؤرخين والشعراء، ليقول «إن القوميين في صميم النسيج الاجتماعي المتني، وساهموا منذ نشأتهم في إخصاب الحياة الثقافية ونشر الوعي».
وحتى انتخابياً، بل وترشيحاً، يذكر عميد الاقتصاد في الحزب قيصر عبيد أن مرشح «القومي» أسد الأشقر هزم مرشح الكتائب في المتن موريس الجميل قبل اندلاع الحرب بسنوات قليلة. وقال إن الوجود القوي للحزب في المنطقة «شجع كثيرين مثل حزبي الكتلة الوطنية والوطنيين الأحرار على البحث عن مختلف الوسائل للتحالف معه»، معتبراً «أن مشكلة حزب الكتائب مع القومي، هي رفضه لكل حزب فاعل في المتن يحتمل أن ينافسه جماهيرياً».
ويشبّه رئيس الحزب علي قانصو تعاطي الجميل في موضوع المتن بـ«تعاطي التاجر الرخيص الذي يرى السلعة جيدة بمقدار ما تدخل الى جيبه من أرباح». والكلام نفسه يتردد في معاقل القوميين في الشوير وسن الفيل وبيت شباب وديك المحدي. وترى محازبة قومية أن «اليمين اللبناني يعتبر كل من ليس من طبيعته، عدواً طارئاً على المتن وعلى لبنان، ويجب إلغاؤه».
ويعود أحد القوميين عقوداً الى الوراء، ليؤكد أن تهمة «اللالبنانية» ليست جديدة، ومثله على ذلك أن «اتساع قاعدة الحزب في الجامعات دفع ببيار الجميل الجد الى القول إن الجامعة اللبنانية لم تعد لبنانية، واتخذ حزب الكتائب من انحياز القومي الى المقاومة الفلسطينية، ذريعة لاعتباره ورماً خبيثاً يجب استئصاله من المتن، وهكذا ارتكبت المجازر بحق القوميين، ودوهمت منازلهم ونُكّل بعائلاتهم وعُذبوا قبل أن يُهجّروا بعد معارك سن الفيل وجل الديب وضهور الشوير من بلداتهم، ومن بقي حافظ على سرية عمله وانتمائه، وخصوصاً في برمانا حيث سبق للزعيم أن تابع دراسته بعد عودته من الأرجنتين، وسجل فيها أول مواقفه القومية ضد الاستعمار حين أنزل العلم التركي عن سارية مدرسته ومزّقه».
ومن ذكريات القوميين المريرة، أن «الكتائبيين أعدموا في بلدة عينطورة، فقط، قرابة ثلاثين قومياً، بعد توقيفهم صفاً واحداً عند أحد جدران كنيسة البلدة»، ويتهمون الجميل، عندما كان رئيساً للجمهورية بـ«التنكيل بالقوميين مستخدماً كل أدوات السلطة ومؤسساتها»، قبل أن يتيح لهم وصول ميشال عون إلى بعبدا في أواخر الثمانينيات، العودة إلى المتن وإعادة تنظيم صفوفهم.
وعلى رغم غياب «القومي» عن المتن قرابة عشرين عاماً، إلا أنه لم يفقد شعبيته، إذ حصل مرشحه للنيابة عام 1992 غسان الأشقر على قرابة 38000 صوت، متقدماً على بقية المرشحين الموارنة، ثم حاز 16000 صوت منفرداً عام 2005، على رغم التضييق على القوميين بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ووجود لائحة عون وحلفائه القوية. وفي الانتخابات الفرعيّة الأخيرة، يقول القوميون إنهم أعطوا لكميل خوري 2500 صوت في أربع بلدات فقط، وتركوا للماكينات الانتخابية الباقية أن تقدر قوة الحزب في البلدات المتنية الأخرى.
ويقول عبيد إنه «على رغم الاختلاف السياسي، حافظ القوميون على علاقة طيبة بأبناء بلداتهم من مختلف الانتماءات. وضمت المجالس البلديّة عامي 1998 و2004 كتائبيين وقوميين، فانتخب كتائبي لرئاسة بلدية بكفيا، مثلاً، فيما اختير قومي نائباً له. ويعود الفضل إلى القوميين في وصول النائب نسيب لحود إلى المجلس النيابي عام 2000، ولم يمنعهم خطابه السياسي المعارض للسوريين من انتخابه».