إبراهيم الأمين
لا يهرب الرئيس نبيه بري من واقع أن الاستحقاق الرئاسي له أرضيتان، واحدة خارجية وتأثيرها كبير للغاية، وثانية لبنانية ذات أهمية كبيرة، لكنها تتأثر أكثر بالموقف الخارجي. وهو لذلك لم يضيّع وقته في مداولات محلية يعرف نتائجها مسبقاً، وإنما سعى إلى ترتيب جدول الأعمال بحيث يتمكن من تكوين صورة وافية ومنطقية عن مواقف الدول المعنية من جهة، وعن الهوامش الفعلية للأطراف المحلية من جهة ثانية. وإذا كان التفويض المعطى له من قيادة المعارضة يتيح له هامشاً واسعاً من المناورة، فإنه انتزع بحكم موقعه رئيساً للمجلس النيابي ورئيساً لآلية انتخاب الرئيس هامشاً إضافياً جنّبه الإعلان الآن عن موقفه من الاستحقاق لجهة المرشح الأفضل، علماً بأنه منذ مدة غير بعيدة اقترب كثيراً من توافق كل قوى المعارضة الأخرى على أن العماد ميشال عون هو المرشح الذي لا ينافسه أحد في جانب المعارضة.
ولذلك، فإن نقاط التوتر في الملف ليست في الحقيقة كما تبدو في صورة المواقف والتصريحات المعلنة. فهو سبق أن توصل مع القيادة الفرنسية إلى تفاهم على ضرورة بذل كل ما يمكن لأجل التوصل إلى تفاهم على الرئيس المقبل، بينما لم يكن قد حصل على أي كلام مفيد من الجانبين الأميركي والسعودي. وخلال الأسبوع الماضي أتيح لرئيس المجلس التأكد من أن الرياض ليست في موقع ممارسة الضغط على الفريق الحليف لها باتجاه تنازل جدي في هذا المجال. وأكثر ما حصل عليه من السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة هو الاقتراح بالتوازي بين الاتفاق على اسم الرئيس المقبل مقابل الاتفاق على حكومة وحدة وطنية، وعندما بدا أن الأمر يحتاج إلى مشاورات أكثر، سافر خوجة إلى فرنسا والتقى هناك رئيسه الوزير سعود الفيصل كما التقى قادة لبنانيين في الخارج، من بينهم النائب سعد الحريري. وإثر عودته، عاد ليؤكد أن فريق 14 آذار يقول إنه يجب الاتفاق على اسم الرئيس أولاً، وضمان آليات انتخابه، ثم يصار إلى تأليف حكومة وحدة وطنية على قاعدة 19 مقابل 11، وأنه ليس هناك من إمكان للفصل بين الأمرين، ما يعني أن لعبة المقايضة لا تزال تتحكم بعقل الفريق الأكثري.
إلا أن بري اهتم أكثر بالموقف الأميركي، وقد أراد، بعيداً عن المداولات التقليدية التي يجريها مع السفير في بيروت جيفري فيلتمان، الحصول على موقف رسمي أميركي من العناصر المكوّنة للاستحقاق الرئاسي، الأمر الذي دفعه إلى إعداد لائحة بثلاثة أسئلة طرحها على السفير الأميركي في آخر اجتماع بينهما، وفيها طلب بري الآتي:
أولاً: ما هو الموقف الرسمي للولايات المتحدة من موضوع النصاب؟ وهل ترى واشنطن أن نصاب الثلثين أساسي، أم هي تدعم فكرة اللجوء إلى نصاب النصف زائداً واحداً.
ثانياً: هل تدعم الولايات المتحدة فكرة التوافق اللبناني ــ اللبناني على رئيس للجمهورية أم تدعم مرشحاً لفريق معيّن.
ثالثاً: ما هو موقف الولايات المتحدة من احتمال تعديل المادة 49 من الدستور التي تتيح انتخاب رئيس للجمهورية من موظفي الدرجة الأولى، مثل قائد الجيش العماد ميشال سليمان أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
لكن بري حمّل فيلتمان رسالة إلى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس حول مواصفات الرئيس المقبل فيها: «نريده رئيساً على علاقة جيدة مع سوريا وعلى علاقة طيبة مع كل الدول الاخرى بما فيها الولايات المتحدة الاميركية».
وبانتظار ان يعود فيلتمان من الولايات المتحدة حاملاً الاجوبة الى بري، فإن الأخير كما بقية السياسيين يتابعون باهتمام مصير الكلام المنسوب الى رايس أمام السفير اللبناني المعيّن في واشنطن انطوان شديد والذي ضمّنته اعتراضاً على تعديل دستوري من شأنه إيصال قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية، علماً بأن بعض المتابعين وجدوا أن هذا الموقف، الذي ترافق مع حملة من فريق 14 آذار، يعود الى عدم تجاوب سليمان مع مطلب توسيع المعركة المفتوحة مع فتح ـــــ الاسلام لتشمل مواقع فلسطينية أخرى ولا سيما تلك التي تخص الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة في الناعمة والبقاع، ولرفضه أيضاً القيام بخطوات مباشرة لمصادرة أسلحة تعود الى المقاومة، سواء تلك التي تقول الولايات المتحدة إنها تدخل من سوريا أو تلك التي تقوم المقاومة بنقلها من منطقة الى أخرى. لكن العنصر الاضافي الذي يجري الحديث عنه، هو لجوء قيادة الجيش الى قبول مساعدات عسكرية سورية قدمت له في الأسابيع القليلة الماضية لمواجهة النقص الحاد في الذخيرة المطلوبة لمواصلة القتال في نهر البارد.
وإذا كان بري بادر أيضاً الى بناء اتصال مع البطريرك الماروني نصر الله صفير، فهو ليس لإنتاج اتفاق مع صفير يُفرض على الآخرين سواء من فريق 14 آذار أو من فريق المعارضة، بل ربما يكون الأمر أكثر منطقيةً لناحية اعتبار هذا التشاور تعبيراً عن رغبة بري في إقحام الكنيسة بتولّي دورها. علماً بأن بري يعرف تمام المعرفة أن صفير ليس الآن في موقع اللاعب القوي. ذلك أن القوى المسيحية المتصارعة تريد منه أن يكون غطاءً لما تراه مناسباً أو أنها مستعدة لمواجهته، وهو الأمر الذي ظهر في الآونة الاخيرة، علماً بأنه لا أحد يتوقع أن يبادر البطريرك الماروني الى خطوة تعيده الى نهاية الثمانينيات. لكن ذلك لا يمنع من العمل عليه باعتباره يضيف وزناً الى الاعتبارات الداخلية.
ومع أنه لا أحد يتوقع التوصل سريعاً الى تفاهم عام، إلا أن بري يراقب بشيء من المتعة عملية توالد المرشحين في فريق 14 آذار، وتطرب أذناه لسماع عبارات التمايز التي يطلقها كل من هؤلاء عن الخطاب المتوتر لصقور 14 آذار، ما يتيح له تنشيط ذاكرته حول رهانه أحد السياسيين قبل مدة، على أن الاستحقاق الرئاسي سوف يفجّر هذا الفريق، دون أن يعني ذلك أن قوى 14 اذار لن تكون قادرة على مواجهة المعركة، لكنها سوف تظهر على قدر كبير من التباين، وساعتها سوف يظهر أن القيادة الفعلية لهذا الفريق موجودة في قريطم ومن يقف خلفها، وهو الأمر الذي يريد مسيحيّو السلطة تجنّبه وإن كانوا يقرون بصعوبة الأمر، لكن كلاً منهم يرى نفسه المناسب ليكون مرشح هذا التحالف للرئاسة. علماً بأن المرشحين هؤلاء يهتمون اليوم بتجنّب مواجهة العقاب الذي لوح به النائب وليد جنبلاط والذي يبدو أنه قبل مهمة الصراخ في وجه من تسوّل له نفسه أمر التفاهم مع الآخرين.