strong>عساف أبو رحال
  • محطات إنذار ومراقبة وشبكة طرق أسيادها رعاة المواشي

  • كثيرون يعرفون جبل الشيخ، الذي تحتفظ قممه بالثلج الأبيض معظم أيام السنة. إلا أن قلّة تعرف أن هذا الجبل، المعروف أيضاً باسم جبل حرمون، يختزن في قممه تاريخاً حافلاً لا يقتصر على الحروب بل يتعدّاها إلى قصص المهربين والرعاة

    مروحيات مدمرة، صواريخ وقذائف مدفعية، حفر مختلفة الأشكال والأحجام... هذا ما يمكنك أن تجده في مرتفعات جبل الشيخ اليوم على رغم مرور نحو 33 عاماً على آخر حرب بين سوريا واسرائيل، ليشكل جبل حرمون معلماً ومتحفاً عسكرياً ميدانياً قد يكون الأول من نوعه في المنطقة.
    يشكل الجزء الجنوبي لجبل الشيخ مثلث الحدود اللبنانية السورية الفلسطينية، وتتربع عليه بضع قمم أعلاها في الشمال 2814 متراً حيث يقوم قصر شبيب الأثري داخل الموقع الدولي التابع لقوات «الأندوف» المكلفة مراقبة وقف النار بين الجيش السوري المتمركز شمالاً وقوات الاحتلال جنوباً بخط فصل يبلغ طوله نحو 20 كيلومتراً.
    شهدت هذه القمم أعنف المعارك العسكرية عام 1974 بين الجيش السوري الذي تمكن من استعادة أعلى قمة بعد ضغط عسكري أجبر قوات الاحتلال على التراجع جنوباً والتمركز في أماكن أقل ارتفاعاً لتحلّ قوات «الأندوف» قوة ثالثة مهمتها الفصل والمراقبة.

    «أوتيل حرمون»

    اتخذت قوات الأمم المتحدة موقعاً لها بمحاذاة القصر الأثري، أحاطته بسياج شائك منعت بموجبه زوّار الجبل من التعرف بهذا المعلم الأثري وأقامت ضمن الموقع فندقاً دولياً أطلقت عليه تسمية «أوتيل حرمون» الأكثر ارتفاعاً في الشرق الأوسط على 2814 متراً، ويشرف على جزيرة قبرص والحدود السورية العراقية وبحيرة طبريا ويتصل بالعالم عبر أجهزة ومعدّات حديثة، ويحرسه سبعة ضباط نمساويين أوكلت إليهم مهمات المراقبة وتتبّع مسار الدوريات الدولية المتجهة جنوباً ضمن خط الفصل.
    وإلى الجنوب على امتداد خط الفصل يقوم موقع آخر للقوات الدولية يتوسط المسافة الفاصلة بين الجيشين السوري والإسرائيلي، ويبعد الموقع الثالث مسافة صغيرة عن مواقع الاحتلال في تلة ملحاتا ونشبة حيث أكبر المراصد ومحطات الإنذار المبكر. ويربط المواقع بعضها ببعض طريق ترابية متعرجة تسلكها الدوريات المؤلّلة.

    مواقع الاحتلال

    أما مواقع الاحتلال فهي تقوم على المرتفعات التي تشكّل الجزء الجنوبي من الجبل، وهي قمم الزلقا والفوارة وملحاثا ونشبة المقبلة القريبة من مركز التزلج والمنتجع السياحي الذي أقامه الاسرائيليون. وتشير الدلالة العسكرية والجغرافية لشبكة الطرق والمواقع التي أقامها الاحتلال، بدءاً من سهل الحولة وصولاً الى أعلى قمة في جبل حرمون، إلى أنها تمثل عموداً فقرياً يربطجغرافياً بين المنطقتين المذكورتين ويضم سائر المواقع والمراكز العسكرية ذات الأهمية القصوى. ويتمثل العمود الفقري في خط رئيسي يخترق مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا ومنه تتفرّع وتتشعب باقي الطرق لتشكّل شبكة متكاملة تقسم عسكرياً إلى ثلاثة أقسام: الجنوبي والوسطي والشمالي.
    يشمل الجزء الجنوبي منطقة مزارع شبعا كاملة ومرتفعات كفرشوبا المحتلة، ويمتد من شمالي سهل الحولة في فلسطين حتى مشارف بركة النقار قرب بلدة شبعا. تغذي هذه الشبكة عدداً كبيراً من المواقع العسكرية هي: معسكر النخيلة جنوباً، موقع مغر شبعا، زبدين، ضهر البيدر، رمثا، السماقة، رويسات العلم، تلة العين، إضافة الى مواقع ونقاط صغيرة للمراقبة ومهابط للمروحيات منتشرة داخل المزارع. وتتميز هذه المواقع بأنها قتالية نسبة الى تجهيزها وتسليحها، لذا تعتبر طرقها أكثر عرضاً واتساعاً لاستيعاب الآليات المدرعة وقطع المدفعية. هذا الجزء من الشبكة تستخدمه قوات الاحتلال فقط لكون المنطقة غير خاضعة للمراقبة الدولية ويبلغ طوله من معسكر النخيلة حتى بركة النقار نحو 20 كيلومتراً.
    ويمتد الجزء الوسطي من بركة النقار جنوباً مروراً بالمراصد ومحطات الإنذار الواقعة شمالاً في أعلى القمم: قمة ملحاثا المطلة على بلدة شبعا، «الزلقا» و«معاصر الدود» و«نشبة المقبلة» و«الفوار» وغيرها من المراكز العسكرية الأخرى الأقل أهمية ويتراوح ارتفاع هذه المواقع بين 1800 و2200 متر فوق سطح البحر، وتشرف على الأراضي اللبنانية والسورية. ويعتبر الجزء الوسطي أكثر اتساعاً وعرضاً نظراً إلى اتساع السلسلة الشرقية وتفرعها إلى عدة قمم بدءاً من النقطة 203، حسب الترقيم الدولي، الواقعة جنوب بلدة حضر السورية، ويقدر عرض الجزء الوسطي من الشرق الى الغرب أي من مرصد قمة ملحاثا الى محطة الإنذار في النشبة المقبلة بنحو 12 كيلومتراً، وطولها من الشمال الى الجنوب، أي من النقطة 203 حتى بركة النقار، بنحو 25 كيلومتراً. وتتميز هذه الشبكة بأنها مخصصة للربط بين المراصد ومحطات الإنذار، وبأن طرقها ترابية والحركة العسكرية عليها أقل نشاطاً من مثيلتها الجنوبيةأما الجزء الشمالي فهو يقع بالكامل تحت السيطرة الدولية وتستخدمه قوات «الأندوف» في تنقلاتها وتسيير دورياتها وصولاً إلى قمة جبل الشيخ (2814 متراً). ويتميّز هذا القسم بأنه خط واحد كثير التعرج يخلو من التفرعات نظراً إلى قلة عرض رؤوس القمم الذي لا يتجاوز عشرات الأمتار في بعض الأماكن حيث يمكن الناظر مشاهدة الأراضي السورية واللبنانية في آن معاً، ويبلغ طول هذا الجزء نحو خمس ساعات سيراً على الأقدام، وهو الأكثر ارتفاعاً، وغير معبّد، وأرضه صخرية ذات لون رمادي غامق، وتعتبر شبكة الطرق هذه مهمة من حيث الموقع والربط، والتفاوت في الارتفاعات أكسبها ميزة خاصة، إضافة الى أنها تربط بين مواقع عسكرية شديدة الأهمية قادرة على رصد كل التحركات لمسافات بعيدة.
    إن احتلال مزارع شبعا ومرتفعات جبل الشيخ مكّن إسرائيل من الحصول على موقع مميز لبناء خط دفاعي طبيعي يوفّر الحماية للاحتلال في شمال فلسطين، والدلالة على ذلك هي المراصد التي أقامتها إسرائيل منذ احتلالها للمزارع ومرتفعات كفرشوبا. وتستقطب هذه المنطقة حيزاً مهماً في المشاريع الاقتصادية التي أعدتها الدولة العبرية، فبعد مركز التزلج ومصنع النبيذ الذي أقيم داخل المزارع شكلت منحدرات ومسالك جبل الشيخ ممرّاً أساسياًَ لعمليات تهريب البضائع خلال فترة احتلال جنوب لبنان حيث كانت قوافل البغال المحملة بالحديد والتبغ تعبر من أمام المواقع الإسرائيلية من دون أي اعتراض بهدف تقويض اقتصاد الدول المجاورة وإيجاد منطقة حرة تشمل شريحة من المستفيدين على جانبي الحدود. ومن المشاريع التي أنجزتها إسرائيل ظنّاً منها أنها قد تكون ذات منفعة اقتصادية: إنشاء محطة للتزلج في جبل الشيخ، بناء منتجعات سياحية وفنادق وإنشاء بحيرات في منطقة الحدود الجبلية.

    نشاط الرعاة

    لا يقتصر الوجود في جبل الشيخ على قوات الاحتلال الإسرائيلي وقوات الأندوف، إذ هناك شريحة من رعاة المواشي التي لها طابعها الخاص والمميز لكونها تأقلمت وسط بيئة قاسية تفرض نفسها على كل المقيمين هناك. ويقول الراعي قاسم محمد دعكور من بلدة شبعا إنه يرعى قطيعه في المرتفعات منذ أكثر من 15 سنة في فترة تمتد من أواخر حزيران حتى مطلع تشرين من كل عام. ويعزو الأسباب الى أن فصل الربيع يبدأ في شهر تموز ويزخر بالنباتات والمياه جراء ذوبان الثلوج. ويضيف أبو يوسف محمد صعب (85 عاماً) أنه أمضى حياته وسط تضاريس الجبل متنقلاً بقطيعه من دون حسيب ولا رقيب، فلا خطوط فصل ولا مناطق منزوعة السلاح تحدّ من نشاط الرعيان الذين خبروا جغرافية المنطقة بكل تفاصيلها. ويقول أحد الرعاة السوريين، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، إنه يتردد مع قطيعه يومياً إلى هذه المرتفعات «التي تشكل نقطة تلاقي وتعارف بين أصحاب المواشي من اللبنانيين والسوريين»، إذ لا حدود بينهم، وحيثما توجد المراعي يتردد الجميع، «ونحن متفقون في السرّاء والضرّاء، وهمّنا واحد تجمعنا صلات المهنة في منطقة نائية وبعيدة جداً عن الخصومات السياسية».




    «رزق الله على التهريب»

    في سجلّ حياة جبل الشيخ نوع آخر من الرجال، هم أصحاب المغامرات الصعبة، ونقصد «المهرّبين». فالجبل شأنه شأن أي منطقة حدودية بين بلدين شكل خلال عقود طويلة من الزمن بوابة رزق محفوفة بالمخاطر في أعمال التهريب بين لبنان وسوريا. وتشكل هذه «المهنة» امتداداً متوارثاً لأجيال تعاقبت ووجدت في وعورة مسالك الجبل وممرّاته الطبيعية البوابة الأفضل لممارسة عمليات التهريب وصولاً الى الأردن عبر سوريا حيث كانت تعبر قوافل المهربين المحملة بالحديد والتبغ والأدوات الكهربائية المنزلية وغير ذلك.
    لكن الوضع تغيّر، ويقول أحد المتقاعدين من المهرّبين: «الله يرحم أيام زمان لما كان ثمن البغل أغلى من ثمن السيارة»، موضحاً أن أسعار البغال المخصصة للتهريب راوحت في السابق بين 2000 وعشرة آلاف دولار للبغل القادر على إيصال الحمولة الى مكانها بمفرده والعودة سالماً غانماً، بينما اليوم لا يتجاوز سعره مليون ليرة.