جان عزيز
نجح فريق السلطة في «إحباط» سيناريو رئاسي، كان معدّاً للتنفيذ بصفته حلاًّ وفاقياً قابلاً للتمتع بموافقة الأطراف المتنازعة كلها.
يروي سياسي مطلع ومعني أن مضمون الطرح المجهض بات معروفاً، وكذلك غالبية تفاصيله. لكن تبقى نواح أخرى في السياسة والدبلوماسية، خارج منطقة الضوء.
القصة بدأت قبل أكثر من شهرين، وبالتزامن، على طريقة المصادفة، بين نبيه بري وميشال المر، وآخرين من المهتمين بهوامش الحياة السياسية من أصحاب العلاقات الوثيقة بجهات أميركية وفرنسية.
كان القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً، كيفية تلافي المأزق الرئاسي المقبل. وكان واضحاً بالنسبة اليهم، أن كل رهانات فريق السلطة على كسر جدار الممانعة الذي بنته المعارضة، ستسقط وبالتالي فالنتيجة الفراغ.
من هذا «الوجع الجامع»، ولدت الفكرة: مطلوب حل رئاسي لا يميت «الديب» القائم خلف السلطة وفيها، ولا يفني قطيع الناس المعارضين. وأخذت الفكرة تتبلور، حتى صارت اسماً وشخصاً: ميشال سليمان. قائد الجيش، لا يعارضه «حزب الله»، وهو الذي حمى ظهر مقاومته طيلة ثمانية أعوام ونيف، وحتى اللحظة. ولا يعترض عليه ميشال عون في اللحظة الأخيرة، لحسابات المؤسسة الواحدة والبدائل الأسوأ. ولا يرفضه فريق السلطة، وهو من أمضى العامين الماضيين يكيل له المدائح والتقريظ، حتى أنه جعل منه في بعض أدبياته المعلنة أو المكتومة، الشريك السري في 14 آذار. حتى ان شخصية وزارية تتندر في مجالسها، بالزعم أنها في كل مرة تتصل «بالجنرال سليمان» لشكره على موقف يبادرها بالقول: خففوا من اطرائكم لي، رح تشمسوني! ولا يمكن واشنطن أن تضع فيتو على قائد الجيش، لأنه على رأس المؤسسة الوحيدة التي تمثّل بالنسبة إلى الأميركيين العمود الفقري لاستقرار الوضع اللبناني، ولمواجهة المهمات المطلوبة والمتصورة مستقبلاً، على أكثر من جبهة وصعيد.
ويضيف السياسي نفسه، أن أصحاب الفكرة أدركوا رغم ذلك أن سبيلها لن يكون معبداً ولا ممهداً. لا بدّ من مقاربة الجميع، ولا بدّ من تذليل بعض الحساسيات هنا، والإشكالات هناك. ويتابع أن الأساس كان التأكد من أن قائد الجيش نفسه مستعد للطرح. بعدها لا بد من مفاتحة البطريرك الماروني، وفي الوقت نفسه إبلاغ عوكر بالمشروع ومن ثم الحرص على نيل موافقة الجميع، طرفاً طرفاً.
ويتابع السياسي المواكب أن العماد سليمان كان واضحاً منذ البداية، حتى من دون مصارحته بالمشروع. فهو أعلن استعداده لأي مهمة تحظى بإجماع اللبنانيين، وعزوفه عن أي مسؤولية توجد انقساماً أو مزيداً منه. لا بل نقل عن قائد الجيش قوله، صراحة، إنه معني بالشأن العام، وإنه منخرط في عمل السياسة من مواقع أخرى لاحقة، لكنه لن يزج بموقعه الحالي في أي تجاذب.
واعتبر هذا المؤشر كافياً، فصار الانتقال إلى الخطوة التالية: الديمان. رتبت خلوة البطريرك مع قائد الجيش، وأعد لكلام الصرح عن عدم الممانعة في تعديل الدستور، وصار الكلام واضحاً عن «دخان أبيض» سيعلن قريباً. حتى أن صاحب الغبطة قال بوضوح إنه جاء من يقول له إن قائد الجيش هو الملاذ الوحيد لتلافي الخراب.
وفي هذا الوقت، يؤكد السياسي نفسه، كان أشخاص آخرون يتولون مقاربة الجهات الخارجية المعنية بالاستحقاق، إن في عواصمها مباشرة، أو عبر ممثليها الدبلوماسيين في بيروت. وكان بين هؤلاء شخصيات وزارية معروفة بانتمائها الى فريق السلطة ممن تولوا الاتصال وطرح المشروع وتسويقه وإقناع محاوريهم به، والعودة بالأجوبة الإيجابية أو المشجعة، أو الكافية للاستمرار في المسعى، على أقل تقدير. ويلاحظ السياسي نفسه أن قرب الشخصيات الوزارية «المتورطة» في المشروع، من بعض أقطاب السلطة يشير إمّا إلى تباين كامن بينها وبين مرجعياتها، أو إلى رهان كان قائماً لدى فريق السلطة نفسه، على الصمت الظاهر والقبول الشكلي بترشيح قائد الجيش، في انتظار أن يرفضه ميشال عون. وكان الوهم في هذا المجال أن تأتي السلبية من جانب المعارضة فيُضرب إسفينان أساسيان بين الجيش وقائده الحالي من جهة، وبين «حزب الله» وقائد الجيش الأسبق من جهة أخرى، مع ما لهذا الأمر من مكاسب استراتيجية في حسابات السلطة.
غير أن محصلة البيدر جاءت معاكسة. سكت المعارضون، لا بل أوحوا بالقبول، وقيل أيضاً ان رسائل جدية تبودلت بهذا المعنى بينهم وبين قائد الجيش. مشى البطريرك ثم خرجت أصوات أميركية مماشية للطرح، عندها أحسّ فريق السلطة بأنه وقع في «فخ» بري ــــ المر، أو أوقع نفسه في المطب الذي كان يعدّه لأخصامه. وبمعزل عن كل الشكليات، اضطر هؤلاء إلى الخروج من مناورتهم وإعلان حقيقة مواقفهم.
ويؤكد السياسي نفسه أن ثلاثة أشخاص كان لهم الدور الأساسي في التصدّي للطرح: فؤاد السنيورة، الذي تردد في اليرزة أنه كشف وجهه الحقيقي حيال كل ما يتعلق بمؤسسة الجيش وأشخاصها، ووليد جنبلاط الذي تحرك بفاعلية من دون أن يسفر وجهه المعروف، وسمير جعجع الذي تصرف انسجاماً مع قناعاته القديمة في هذه المسألة. والثلاثة تحركوا بين واشنطن والرياض والديمان، فعادت الأمور الى نقطة الصفر.
هل ربح فريق السلطة الجولة الرئاسية الأولى؟ يجيب السياسي العارف: بل ربح مباراة «لحس المبرد»، والدم السياسي اللاحق قد لا يكون قليلاً...