غسان سعود
لافتــات موحــدة تتــوزّع على الأحيــاء بتواقيــع مختلفــة لروابــط وجمعيــات عائليــة

تعيش بيروت منذ سنتين ظاهرة ليست جديدة عليها من حيث الشكل، لكنها مختلفة كلياً من ناحية المضمون والأسلوب والخلفيات، هي بكل بساطة ظاهرة اللافتات.
فبيروت واللافتات صنوان، منذ كانت عاصمة الحرية والثقافة ومناصرة كل قضايا الحق والتحرر في العالم. وطالما تحولت جدرانها والهواء بين أبنيتها الى مرآة لما في قلوب أبنائها من تأييد للقضية الفلسطينية وعبد الناصر والجزائر وجنوب أفريقيا، وصحيفة نقابية تطالب بالضمان والجامعة الوطنية ورغيف الخبز، وروزنامة تحيي كل المناسبات الوطنية محلياً وعربياً ودولياً.
هذه البيروت نفسها، باتت منذ سنتين «صحيفة» مخصصة لما يطلبه «رئيس التحرير»، الذي يقرر «المانشيت» الذي يريده، فتمتلئ الشوارع فجأة بـ«الحقيقة»، أو يحدّد المواقف والردود، فتنقلب اللافتات التي كانت تمجد الحركة التصحيحية السورية في 8 آذار، الى أخرى لا تعترف الا بشعارات 14 آذار عن «السيادة والحرية والاستقلال»، مع قليل من الخيال وكثير من الاستعارة. فإذا قيل لمواطنين تعرضوا لعدوان اسرائيلي هدّم بيوتهم وقتل أبناءهم «يا أشرف الناس»، تستفيق الأحياء في اليوم الثاني على صور لزعماء تحتها عبارات «أشرف الناس» أو «أنتم الشرف». أما القول بأن «الجيش خط أحمر والمخيمات خط أحمر»، فله لافتات الرد المناسب وشعارات الحملات الانتخابية، وملخصها أن «بيروت خط أحمر»، وحتى شعار «لبيك يا نصر الله» الذي عُرف به جمهور «حزب الله»، تحول في بعض اللافتات «المستقبلية» إلى «لبيك يا سعد الله»!
ويلفت في هذه اللافتات أنها تكاد توحّد أهل بيروت في الموقف وتوقيت اعلانه، بل إن المتابع لها يلاحظ انها سبب لبروز روابط عائلات وجمعيات. فعندما امتنعت قطر عن التصويت لمصلحة إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في مجلس الأمن، انتشرت في كل انحاء العاصمة لافتات تحمل تواقيع مختلفة ومضموناً متشابهاً يرى أن «من لم يصوت مع المحكمة الدولية فهو حتماً مع القتلة».
ومثلما تنتشر فجأة اللافتات التي تؤيد قوى الأمن الداخلي والجيش، فإن المناسبات «الطارئة» تغيرها بسرعة و«غب الطلب»، مثلما حدث في اليومين الماضيين حيث أُنزلت معظم لافتات دعم الجيش والإشادة بحكمة قائده ووعيه إفساحاً في المجال، مثلما يبدو، للراغبين بالتضامن مع السعودية وملكها، رداً على تصريح نائب الرئيس السوري فاروق الشرع. فاستنفرت العائلات البيروتية من الحمرا مروراً بقريطم لشكر «خادم الحرمين وسعادة السفير عبد العزيز الخوجة» من «تجمع لجان أهالي بيروت الاجتماعية الخيرية»، وصولاً إلى البربير حيث تزدحم اللافتات التي تكرر العبارات نفسها مع اختلاف التواقيع.
فقد رفعت روابط آل المصري وآل كشلي وآل مدور، وفي مساحة لا تتعدى مئة متر لافتات تحمل عبارة «الأيادي السعودية البيضاء تعمم الخير لكل لبنان». فيما جمعت «الصدفة» نفسها رابطتي آل الحلبي وآل الصيداني في اعتبار أن «من يمارس سياسة الاغتيال لا يخجل من الشتائم». وتلاقت عائلتا الناطور وكشلي تحت راية أن «التهجم على السعودية تآمر على مصالح لبنان وشعبه». أما «توارد الخواطر» فأكثر ما يشير اليه شعار «المملكة العربية السعودية خط أحمر» الذي ذيّل بتواقيع معظم العائلات البيروتية!
وبالقرب من منطقة الزيدانية حيث دار الفتوى، أنزلت لافتة ترد ضمنياً على الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله باعتبار أن «الجيش وحده خط أحمر»، ورفع مكانها «المملكة العربية السعودية خط أحمر». واستعيض عن اللافتة التي تؤكد أن الجيش صمام أمان جميع اللبنانيين في أول ساقية الجنزير بأخرى تفتخر بالجيش «الصامد الجبار» مهنئة اللبنانيين «بممثلنا الأعلى الشيخ سعد الدين الحريري». ولم تقتصر الردود على العموميات، فدخل سمير زعتري في منطقة كورنيش المزرعة بالتفاصيل متوجهاً إلى الوزير السابق وئام وهاب قائلاً «أنت يا وئام لن تصل إلى (...) خوجة».
ولدى السؤال عن خلفية اللافتات ولماذا تتغير، يرتبك الناس للوهلة الأولى، ثم سرعان ما يستنبطون أجوبة يبدو أنها لإقناعهم قبل غيرهم، فصاحب متجر صغير في قريطم لا يجد رداً على سبب استبدال لافتة الجيش، إلا القول إن كلام قائد الجيش الأخير هو رد غير مباشر على النائب سعد الحريري، عبر رفضه اعتبار مجموعة فتح الاسلام عصابة، وحسمه ايمان مقاتليها بمبادئ تنظيم القاعدة، مسقطاً «ارتباطها بالمخابرات السوريّة». ويقول «إن قائد الجيش أخطأ القول، خصوصاً أن الجيش يخوض معركة والوقت غير مناسب لخلق سجال. وبعد تصريحه نزعت صورة ترى أن «الأمر للجيش» لقناعتي أن استغلال معركة البارد والتعاطف مع العسكريين لوصول عسكري جديد إلى السلطة سيزيد الأمور تعقيداً».
كذلك يتكئ جاره على «مبرر» تصريح قائد الجيش، مرددا بشيء من العصبية «أن التصريح نشّط ذاكرة كثيرين وذكّر بأمور كان يفترض أن تبقى تحت البساط حتى تحسم المواجهة في البارد أقله». ولا يختلف «المبرر» في الشارع الرئيسي للمزرعة، حيث يذكر أحد أبناء المنطقة أنه سبق له أن أعد لافتة التأييد للجيش ورفعها «اعتراضاً على من عارض عملية الجيش في البارد»، لكنه عاد ونزعها «بعد تصريح قائد الجيش، لأنني شعرت بأن البعض يستثمر هذه الأمور في غير مكانها الصحيح».
وإن كانت المواقف العائلية المبرمجة، مرّت على خير سابقاً، فإن هجمة اللافتات المؤيدة "لوحدة المسار والمصير مع المملكة العربية السعودية»، وإحلالها مكان تلك المؤيدة للجيش، بالتزامن مع اعلان قائد الجيش أن عسكرييه لا يرون شيئاً من المساعدات التي تخفف عنهم عبء ضريبة الدم المرتفعة، يبدو انها ستنقل «حرب الشعارات» الى الأرض، إذ وقع خلاف أول من أمس في الطريق المؤدي إلى كلية الهندسة في جامعة بيروت العربية حين نزع أحد الشبان علم الجيش اللبناني ليرفع مكانه العلم السعودي، وهي ظاهرة تكررت في أكثر من حي بيروتي، حيث لا يزال يوجد من لا تعجبه «الحلة» الجديدة لعاصمته، أو على الأقل لا يرضى برفع علم أي دولة أخرى.. إن لم يكن مكان علم الجيش اللبناني ففوقه حتماً!