strong>بيسان طي
  • جدار الجامعة اللبنانية «فاصل» يزيد حزام البؤس... بؤساً


  • الليلكي واحدة من المناطق التي لجأ إليها أبناء المناطق الفقيرة لقربها من بيروت، القاطنون فيها نقلوا إليها عادات أناس القرى، ولكنهم تمردوا على الإهمال اللاحق بهم من خلال لجنة شعبية شكلوها منذ أكثر من 30 سنة وتتولى المطالبة بإنماء المنطقة

    قبل عقود كانت الورود الليلكية لا تزال تبسط سلطتها على منطقة في الحدث تمتد من الكفاءات إلى الشويفات، تعاظمت هذه السلطة حتى حملت المنطقة اسم الورود وصارت تُعرف بـ«الليلكي».
    مرت الأيام والسنوات، مرت حروب وأزمات وفترات سلام، كل شيء تغير في لبنان، ومنطقة الليلكي اجتاحها الباطون، ففقدت طابعها الرومانسي، لكنها احتضنت فقراء التجأوا إليها من الأرياف، هرباً من الفقر الذي يقبض على أيامهم وأحلامهم ومستقبلهم. ذهبوا إلى بيروت، أو بتعبير أدق إلى أمكنة قريبة من العاصمة تتسع لابن الريف المهمل حين يبحث عن فرصة عمل في مدينةتضج بالناس والأضواء والحركة... وفي الليلكي عاش بعض الآتين من البقاع والجنوب والشمال. استقروا مكان الورود بحثاً عن وظيفة أو عمل ما، لم يدخلوا المدينة بيروت، وظلوا عند أطرفها.
    قصة الليلكي تشبه قصص المناطق الأخرى التي تشكل أحزمة البؤس المحيطة ببيروت، بل إن المنطقة كلها تشبه تلك المناطق، بناسها وعمرانها ونمط العلاقات الاجتماعية التي تربط بينهم.
    هي إذاً منطقة أخرى من المناطق التي تعج بالنازحين من الأرياف، الهاربين من الإهمال المزمن لهم نحو العاصمة التي تعج بكل أشكال الحياة ـــــ حتى المرعبة منها. تتلاصق البيوت وقصص أصحابها في الليلكي، ويضيق بها المكان المتمدد على فترات متباعدة... حتى اصطدم أخيراً بجدار فظيع، يُشعِر الناظر إليه من جهة الليلكي أنه أشبه بجدار عزل الفلسطينيين. في منطقة الحدث يشكل ذلك الجدار حدود الجامعة اللبنانية، ولكنه يخفي عن الطلاب تلك المنطقة الفقيرة المتاخمة لمجمعهم الجامعي.
    في زمن مضى منذ عقود، كانت الورود الليلكية تحتل مساحة كبيرة من منطقة في الحدث تمتد على مساحة 4 كيلومتر مربع. بين منطقة الكفاءات والجدار العالي للجامعة اللبنانية في الحدث يعيش حالياً نحو 15 ألف نسمة.
    في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ النزوح نحو الليلكي، التي كانت تتناثر فيها بعض البيوت لسكان هم من أبنائها. إضافة إلى شتلات الورود الليلكية كانت المنطقة مليئة بأشجار الزيتون، وكانت سكة القطار القديم تمر في المنطقة. نصري نصر الدين يذكر تلك السكة جيداً، وهو الآتي إلى المنطقة في أواخر الخمسينيات، تاركاً قريته نحلة في البقاع ليعمل موظفاً في شركة «غندور» في الشويفات. يقول إن الليلكي كانت تضم في تلك الفترة 200 بيت، كلها بيوت تحيط بها حدائق صغيرة ولها بركة ماء، ولكثرة الأشجار والماء في المنطقة تحولت مقصداً لمحبي النزهات في الطبيعة، وخاصة في أيام العطل.
    كان نصري يبلغ من العمر 17 عاماً حين جاء إلى الليلكي، ويومها «كان متر الأرض المربع يُباع بـ7 ليرات، فيما لم يزد سعره عن 3 ليرات في حي السلم». جمعت الليلكي عبر توسعها أناساً من طوائف مختلفة. وإن طغى في الفترة الأخيرة اللون الشيعي. وتسمى بعض الأحياء بأسماء القرى التي أتى منها قاطنو الحي أو بأسماء عائلاتهم، فهناك مثلاً «حي أكروم» الذي يسكنه أناس من عكار، و«حي شبعا» حيث يعيش نازحون من بلدة شبعا، ومن اللافت أن عدداً من البيوت في الليلكي تحمل أرقاماً، أي أنها قديمة وشرعية ومسجلة. حركة العمران الكثيفة في الليلكي بدأت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
    نصري لم يترك الليلكي حتى أيام الحروب، وتزوج عام 1960 ونقل زوجته لتعيش معه ومع أهله في الليلكي، وصارت هذه المنطقة تحتل المساحة الأكبر من ذاكرته. فيها المحطات الجميلة والأحداث الأكثر إيلاماً. عند تخومها فُقد شقيقه أحمد عبده ناصر الدين في الحرب الأهلية، وأهله لا يزالون يبحثون عنه، وقد قيل لهم إن «القوات اللبنانية» مسؤولة عن خطفهيدور المرء كثيراً، يلف الطرقات والزواريب، ينعطف شمالاً ويميناً، ثم شمالاً ويميناً: إنها البيوت نفسها، بالكاد مطلية، والزواريب الضيقة عينها، تخترقها حفر مليئة بالماء الوسخ، بل إنها النظرات نفسها تتكرر، كأن العيون تتناقلها، تتناقل النظرات المحدقة المستغربة، المتسائلة عن الوجوه الغريبة.
    يدور المرء كثيراً قبل أن يصل إلى منزل أسرة الراحل علي إبراهيم. يبعد المنزل أمتاراً قليلة عن المنازل المجاورة له، وترتفع في هذه الأمتار أكوام من النفايات والأغراض المكسورة والشوك، وتسرح في محيط المنزل الجرذان والحشرات الضارة، وقد تطل من فترة لأخرى أفاع صغيرة وكبيرة. المنزل كله عبارة عن غرفة واحدة سقفها من الأترنيت، تعيش فيها الأرملة عطاف مع أولادها الخمسة، جميعهم عاطلون عن العمل، أو يعمل ابنها المراهق في أعمال موسمية. الفقر لا يشغل عطاف كثيراً، همّها البحث عن وسيلة تحارب بها الحيوانات الضارة، وقالت إن رش المبيدات يتم مرة في الشهر على الأكثر.
    عطاف وأولادها يعيشون في حالة مزرية، الخارج من منزلهم يتنبّه إلى أن أحزمة البؤس وحدها تتسع لهؤلاء الفقراء، فهناك لا يشعرون بغربة، إذ كل شيء حولهم يشي بالفقر.
    الطرقات بمعظمها غير معبدة، قد يصادف المرء حفرة تخرج منها مياه المجارير، وهو بالطبع سيشعر بالاختناق لضيق الزواريب وتراكم البيوت فوق بعضها، وتشابه الحارات. ما يميز الليلكي عن المناطق الفقيرة الأخرى هو وجود لجنة شعبية منتدبة من الأهالي، أعضاء اللجنة يرفعون الصوت دائماً، حاملين مطالبهم إلى مجلس بلدية الحدث ـــــ الذي تتبع له الليلكي ـــــ وإلى نواب ووزراء ومسؤولين، وإلى وسائل الإعلام.
    يشعرون أحياناً كثيرة أن أصداء مطالباتهم تتوه في الوديان، وقليلة هي المطالب التي تتم الاستجابة لها.
    واللجنة لا تطلب «لبن العصفور». إبراهيم زين الدين عضو اللجنة والناشط البارز في المطالبة بتوفير خدمات للمنطقة، يلفت إلى أن النظام الاجتماعي السائد في الأرياف يحكم العلاقات بين سكان الليلكي. يُحتفل في الحسينية بمناسبات عديدة ويلتقي فيها معظم السكان. وفي هذا الإطار يلفت ناصر الدين إلى أن علاقات الصداقة التي جمعته بنازحين إلى الليلكي ما زالت مستمرة منذ عقود.
    التنمية هي عنوان مطالب لجنة الليلكي، ولكن مطالب كثيرة أخرى أبرزها ربما يتعلق بجدار «فصل» الجامعة اللبنانية عن المنطقة، ويلفت زين الدين إلى أن اللجنة رفعت مطلباً إلى رئاسة الجامعة ليتم فتح بوابة بين الجامعة والحي، يسمح للطلاب بالوصول إليه، فتنتعش المنطقة ويستأجر فيها الطلاب الآتون من المناطق بيوتاً، وتُفتح فيها مطاعم ومتاجر ومكتبات لهم. ويقول أعضاء في اللجنة إن وزارة الشؤون الاجتماعية لم تعد توفر للمنطقة أية خدمات.
    يقف ناصر الدين جنب الشاب الناشط يحمل بيده إيصالات فواتير الكهرباء. يُذكّر إبراهيم زين الدين بأن سكان الليلكي يدفعون كل الضرائب والرسوم المتوجبة عليهم. وحين يُسأل عن المطالب يلفت إلى أنها تشمل كل مقومات العيش الصحي، وأضاف «حاولنا أن نفتح نقاشاً مع البلدية ولكن لم نلق أي تجاوب».
    انتظر أهالي الليلكي البلدية فجاءتهم الهيئة الإيرانية. فقد تقدموا بعشرات الطلبات ورفعوا الصوت عالياً لسنوات سائلين مجلس بلدية الحدث الذي تتبع له منطقتهم أن يساهم في إعمارها ورفع الظلم عنها، انتظروا سنوات من دون أن يُستجاب لمطالبهم التي تتناول أبسط مقومات العيش الحديث.
    بعض الطرقات تُزفّت في الليلكي أخيراً، وتتولى الهيئة الإيرانية لإعادة الإعمار الأمر. الأهالي قالوا إن مطالباتهم المستمرة دفعت هيئة الإغاثة إلى تلزيم تزفيت بعض الطرقات للهيئة الإيرانية.
    أما رئيس بلدية الحدث طوني كرم، فهو أيضاً يقول كلاماً ممزوجاً بنبرة الغضب من أهالي الليلكي. يؤكد أن البلدية أعلنت الليلكي منطقة منكوبة وطلبت من هيئة الإغاثة الاهتمام بها، وقامت الأخيرة بتلزيم طرقات للهيئة الإيرانية. كرم ردد «يطفئون الأنوار في المنطقة لتمرير أشياء لا أريد ذكرها، لم نعد نغيّر لمبات الإنارة في الطرقات لأنهم يقوصون عليها، وعندما يرسل المجلس البلدي أناساًَ لرش المبيدات يُرجمون بالحجارة، وكلما طالبونا بفتح المجارير نقوم بذلك... قد تكون مطالبهم المتكررة لإخفاء أشياء أخرى».
    الدكتور كرم على رغم غضبه امتنع عن تحديد هوية «الأشياء الأخرى هذه»، أما الأهالي فيؤكدون أن «الأشياء» التي تهمهم تتعلق فقط بتوفير مقومات العيش.

    مطالب اللجنة الشعبية
    تألفت اللجنة الشعبية لأبناء الليلكي عام 1976، وفي كتيّب أصدرته أخيراً تلفت إلى أن سكان الليلكي «قدموا العشرات من خيرة أبنائهم شهداء في سبيل وحدة الوطن وكرامته».
    تلفت اللجنة إلى أنها تعتمد في تمويلها على الهبات والتبرعات، وهمها رفع الحرمان عن المنطقة. وقد نجحت في إنجاز بعض المشاريع كإنشاء شبكة مجارير وغرفتي كهرباء، وإقامة مستوصف استمر في العمل حتى التسعينيات، وحفر بئر ارتوازي.
    أما مطالب اللجنة فتُلخّص بالنقاط التالية:
    تعبيد الطرقات الرئيسية والداخلية، إنشاء بنى تحتية، فصل الليلكي عن الحدث وإلحاقها بالمريجة، إنشاء ناد رياضي ـــــ ثقافي لأبناء المنطقة، إعادة بناء مدرسة «الليلكي» داخل المنطقة، تمديد قساطل مياه الشرب إلى كل المنازل، إنشاء ملاعب وحدائق عامة، تنظيف المجاري و«العبارات» في الشتاء، رش مبيدات مع حلول الصيف، إنشاء غرف كهرباء تغطي حاجيات المنطقة، رفع إشارة الاستملاك عن قسم كبير من الحي، توفير سيارة لجمع نفايات المنطقة، شراء سيارة إسعاف للمنطقة.