strong>عـلي عطوي
  • بيع الخضار مهنة مريحة لا يعيبها إلا حمل الصناديق... وبخل الزبائن

  • التين، الصبّار، المقتى، البطيخ... وغيرها من المزروعات تحتلّ جوانب الطرقات العامة في الجنوب اللبناني. ليس المشهد جديداً على أهالي الجنوب وزائريه في موسم القطاف، لكن اللافت في الفترة الأخيرة أن أعمار الباعة لا تتجاوز غالباً الثامنة عشرة. من هم هؤلاء الباعة؟ وكيف يصفون «مهنتهم» المؤقتة صيفاً؟

    يدير عاطف فاعور (14 عاماً) «بسطة» خضار بمحاذاة الطريق العام في بلدة جويا. يقول إنّه يسعى من وراء عمله إلى «تأمين دخل بسيط لمساعدة العائلة في تخطّي صعوباتها الماديّة»، معبّراً عن رضاه عن عمله بالقول: «إنه يجعلني أعتمد على نفسي وأنتج مصروفي، فهذه الأيّام صعبة وعلى الأبناء أن يساعدوا أهاليهم في تأمين متطلّبات الحياة للعيش في المستوى المطلوب»، من دون أن يحدد لنا الفتى تعريفه لـ«المستوى المطلوب». أمر واحد يجعل عمله مزعجاً هو اضطراره لحمل أقفاص الخضار بُعيدَ قطافها ونقلها إلى السيّارة... ثم إلى البسطة حيثُ يعرض بضاعته، لأنّ «حمل الخضار ونقلها يسبب أوجاعاً في الظهر». الشكوى تتبدل ابتسامة حين يقول: «هذه رياضة غير مقصودة تقوّي عضلات الجسم وتمنحها مرونة زائدة».
    من ناحية أخرى، يجد عاطف في عمله فرصة للالتقاء بالناس والاحتكاك بهم، وتعلّم مهارات التعامل مع الزبائن «فهم من فئات وطبقات مختلفة ولكلّ طريقة خاصة في التعامل مع الآخرين، كما أنّها فرصة لقضاء عطلة الصيف بعيداً عن المنزل والانشغال بأمور البيع والشراء، بدل تضييع الوقت والاستغراق في أمور تافهة، لا تؤمّن حاضراً ولا تبني مستقبَلاً».
    يقترب محمد فاعور من عاطف، قريبه وزميله في المهنة، تاركاً بسطة الخضار التي يديرها غير بعيد عنه. يتبادلان الحديث في محاولة للخروج من «أجواء الملل» نتيجة السكون الذي يسيطر على المكان عند الظهر. محمد مثل عاطف، يشكو صعوبة نقل البضائع، لأنه «العمَل الوحيد الصّعب في هذه المصلحة». لكن العمل، بشكل عام: «حلو كتير، مريح ومربحيهمّ بشرح فضائل مهنته، إلاّ أنّ سيّارة تقترب منه، يخفف سائقها من سرعته، فيقطع محمّد كلامه ويلاقيه بعبارات الترحيب «تفضّل، ميّل، عنّا تين بلدي...» يسأله السائق: «بقدّيش البطّيخ ؟» يجيب: «الكيلو بسبعة ونص» (750 ليرة)، فينطلق السائق مسرعاً بسيّارته ذات الدفع الرباعيّ تعبيراً عن استنكاره لغلاء السعر.
    لا يوفّره محمّد بكلامه ويقول غاضباً: «بيجي الواحد بيبحّ لسانو وبيبحّنا معو كرمال يشتري بطّيخة، الزبون غشيم لا يعرف أنّ الاختلاف في السعر يعني اختلافاً في النوعيّة، هناك البضاعة البلديّة وأخرى تجاريّة». ومحمد الصغير بات خبيراً في شؤون الزراعة، يشرح أنّ بعض المزارعين يقومون بتطعيم البطّيخ باليقطين «لذلك يبلغ وزن الواحدة 10 كلغ وسعرها زهيد، وهيَ من الداخل تبدو كالإسفنج طعمها لا يشبهها، بخلاف البطّيخ البلدي الذي يُعتَنى به حتّى يكبر وينضج». محمد «الخبير» بشؤون الزراعة يعرف أيضاً تنوّع أطباع البشر، لذلك يردد عندما يهدأ غضبه: «مش كلّ الناس متل بعضها».
    يستعين محمّد بذاكرته ويسترجع أحداثاً طبعت عمله اليوميّ. يرتفع صوته كلّما مرّت شاحنة بمحاذاة الطريق، فتهتزّ لها بسطة العرض، بعدها يعود الهدوء إلى المكان. يمسك بورقة فاتورة كانَ قد دفعها صباحاً ويتلفها، يلفت إلى أنها رسم استيفاء ضريبة أسبوعيّة تأخذه البلديّة مقابل إشغال المكان.
    محمد البالغ من العمر 16 عاماً في الصفّ السادس، لا يخفي رغبته في هجرة مقاعد الدراسة إلى أوستراليا حيثُ يعمَل أقرباؤه، ويقول مبرّراً: «انكسرت يدي لكثرة ما كتبت في المدرسة». ويهزأ من كلام قريبه عاطف الذي يتحدّث عن أهميّة مواصلة دراسته، فهذا الأخير ليس أهلاً لإعطاء النصائح «عمره 14 سنة وما زال في الصف السابع».
    إلّا أنّ الاختلاف في وجهات النظر بين عاطف ومحمّد لا يفسد للودّ قضيّة، كلاهما يتشاركان هموم العمَل، فهما يضطران إلى الاستيقاظ المبكر عند الخامسة صباحاً لقطاف فاكهة زرعها والداهما، ثم يقومان بحصاد الموسم وتسويق الفاكهة وجني أرباحها.
    حسن حاوي (16 عاماً) هو أيضاً بائع خضار في بسطة على طريق تربط جويا بباقي القرى الجنوبية، يصف عمله بأنّه «ليس أكثر من تسلية». يجلس على كنبة يضعها وراء بسطته. والده الذي يعمَل موظفاً في إحدى المؤسسات التربويّة، يمتلك قطعة من الأرض اعتادَ زراعتها شتاءً، بينما يتولّى ابنه عملية القطاف صيفاً «ونأتي لنصرّف منتوجاتنا هنا». حسن ما زالَ يذكر تماماً صباح 12 تموز، حينَ سمِعَ خبَر أسر الجنود الإسرائيليين عبر الراديو الذي يحمله إلى عمله، يذكر أيضاً التحليق الكثيف للطيران الإسرائيلي، ما استدعى قدوم عمّه بالسيّارة لإعادته إلى المنزل. بعد انتهاء الحرب تفقّد والده أرضه فوجدها ممتلئة بالقنابل العنقوديّة، «لم يعُد بإمكاننا زراعتها فأصبحنا نشتري من المزارعين ونبيع، أي إننا لسنا أكثر من وسطاء».
    حسن يبيع الخضار والفاكهة في بسطته منذُ نعومة أظفاره، ويجدها من «المهن البسيطة»، ويلخّص النجاح فيها بأمرين أساسيين: «أوّلها عرض بضائع ذات جودة ونوعيّة ممتازة، وثانيها التعامل مع الزبون بلطف». ويتوقّف عندَ أساليب التعامل التي يعتمدها في تجارته فـ«الزبون لا يقف عندك إلّا عندما يسمَع كلمات الإطراء والترحيب، والمعاملة الحسنة تجذب الزبائن». وهو يعمَل ثلاثة أيّام في الأسبوع فقط، «لأنّ الشغل يكون رصّ في الأيّام الأخيرة من الأسبوع، أمّا بقيّة الأيّام قرقشة ليس أكثر»، ويشير إلى أنّ «غالبيّة الزبائن من الميسورين، لكنّ أكثر ما يزعجني أن أرى أحدهم يركب سيّارة جديدة، ثم يحاول ألّا يدفع لي ثمن الفاكهة كاملاً، رغبة بتوفير 500 ليرة، هذا تناقض لا أستطيع أن أفسره». بين جويا وصور تكثر البسطات، وراءها يقف مراهقون، تراهم يتسامرون، يتبادلون الأحاديث أو يتفرغون لزبائنهم. رضا دقماق ( 15 عاماً) يجلس خلف بسطته، ينهمك في تحضير نارجيلته على عجَل قبل أن يباغته أحد الزبائن، وهو يؤكّد أنّ الاحتياجات الأساسيّة متوافرة ومؤمّنة له «لكنني أعمَل من أجل تأمين الكماليّات التي أرغَب في اقتنائها، فالأهل ينفقون أموالهم على الأمور الملحّة، ويهملون أموراً أخرى يعتقدون أنها غير ضروريّة، قبل عامين جمعَت ما حصّلته في نهاية موسم الصيف وقمت بشراء حاسوب».
    رضا وأهله لم يتمكّنوا هذا العام من زراعة الأرض لعدم الاطمئنان إلى خلوّها من القنابل العنقوديّة، وذلك بعدما قام فريق نزع الألغام بتفكيك سبعة منها، «ما زلت غير مطمئن، وأقوم بشراء الخضار من السوق وصار التاجر يشاركني في الربح».
    رضا أيضاً يجد أنّ عمله سهل وهو يقتصر على عرض البضائع الموجودة، «فلا حاجة هنا إلى المناداة على الزبائن، بخلاف ما هو الحال في سوق الخضار»، لكن المراهق الطموح غير راض تماماً عن حاله، يتمنّى لو كان بإمكانه استئجار محلّ بدل إقامته في خيمة من القصَب «بذلك أحتفظ بالبضائع داخله، ولا أتحمل عناء نقلها يوميّاً، لكنّني لا أملك المال الكافي لاستئجار متجر»، ويصف نفسه بأنه «محبّ للتجارة»، ويتحدّث عن أجواء المنافسة التي يخلقها بينَ زملائه المجاورين لمكانه «فالمنافسة الشريفة هي الحافز للاستمرار في العمَل باندفاع، وغياب عنصر التنافس يقيّد التجارة ويجعلها مهنة جامدة»، عند هذا الحد يتوقف رضا عن الكلام، يقطع حديثه حضور والده الذي أتى حاملاً له «الزوّادة» للغداء.
    أحمد أديب (16 عاماً) يجلس على بعد أمتار، يقلّب ترددات المذياع ويثبّته على إحدى الإذاعات الغنائيّة، يشكو الخسارة التي ألمّت به الصيف الماضي بسبب حرب تموز، ويردد: «لم يعوّض علينا أحد». هو مختلف عن زملائه، يعبِّر بسرعة عن عدم رضاه عن مهنته، قائلاً إنها متعبة وغير مربحة. لكنّ المتعب في هذه المهنة، هو «البقاء في العمَل من الفجر إلى النجر» كما يعبّر ويشرح قائلاً: «أستيقظ عند الخامسة صباحاً، وأوّل ما أقوم به هو الذهاب إلى الحقل لقطاف الناضج من المقتى والبطّيخ البلدي، بعد ذلك أنقلها إلى البسطة وأنشغل بترتيبها لكي تبدو أنيقة، وهكذا يمتدّ دوام العمَل يوميّاً من مشرق الشمس لمغربها».
    ينشغل محمود مهدي (15 عاماً) في إخراج النقود من جيبه وعدّها إيذاناً بانتهاء يوم عمَل طويل، يقول إنّه وجد أصدقائه يعملون في هذه المهنة، فقرر أن يكون مثلهم «فالعمَل أفضل من الجلوس في المنزل طوال ثلاثة أشهر وعطلة الصيف هي تتمّة للدراسة شتاءً، لأنني بواسطة الأموال التي أحصّلها هنا أستطيع أن أدفع رسوم تسجيل المدرسة».
    وليسَ بعيداً عن أجواء الدراسة، فإنّ محمود يجد عمله «فرصة لتقوية الذاكرة عبر الحسابات التي يجريها من خلال عمليّات البيع والشراء»، وفي حال الضجر والملل يغتنم أوقات الفراغ من عمله من أجل لعب الدّاما مع الأصدقاء في البسطات المجاورة والدردشة معهم، وخصوصاً في الأيّام الأولى من الأسبوع «لأنّ حركة السوق تكون شبه معدومة».




    مهنة الذين لا مهنة لهم

    هم في أكثرهم طلاب مدارس، يجدون في فصل الصيف مصدر رزق وإنتاج لتأمين بعض مصاريفهم. يندفع هؤلاء إلى هذه المهنة نتيجة تدنّي تكلفة رأسمالها وبساطة العمَل بها، فهي تقوم على القليل من الفواكه والخضار الموسميّة، التي تُعرَض بشكل لافت لاجتذاب نظَر الزبائن، إضافةً إلى خشب القصب الذي يتمّ تنسيقه على شكل خيمة تقي من حرارة الشمس وتداعب الهواء بأوراقها.
    تنتشر بسطات الفواكه عادةً بمحاذاة الطريق العام، وخصوصاً تلكَ التي تشكّل شرياناً حيوياً وأساسياً لا تخلو من المارّة، كما في الطريق المؤدّية من صور جنوباً إلى جويّا وتبنين شرقاً. وبينما ينتقل حسن حاوي من منزله في جويّا قاصداً الطريق العام لبلدته ليعرض ما لديه من فواكه موسميّة، يقصد كلّ من عاطف ومحمّد فاعور اللذان يقطنان في بلدة دبعال الطريق نفسه، ومردّ ذلك إلى وجود أوتوستراد يربط بين مدينتي صور وبنت جبيل، «ما يجعَل حركة المرور مستمرّة حتّى منتصَف الليل».
    تركُّز مجموعة من البسطات في أمكنة متقاربة بمحاذاة الطريق، يشغل حيّزاً منها، وخصوصاً عندما تتوقّف السيّارات التي قرر أصحابها الشراء، فتزدحم الطريق وتضيق بِمَن فيها، وتعود بعد لحظات السكينة والهدوء إلى المكان، ليخلو الجوّ «لكركرة» النارجيلة بانتظار «زبون من السماء».