strong>رشا حطيط
في قاعة غير مجهّزة (لوجستياً) لتناسب مكاناً يُحكَم فيه باسم الشعب، ترأّس القاضي المنفرد الجزائي في بيروت زياد مكنّا جلسات محكمة الجزاء أمس، ليضفي تعاطيه الحازم واللطيف مع احترامه لحقوق المتقاضين على صورة المحكمة مكانةً تتناسب مع أهدافها

بابتسامة وعبارة «أهلاً وسهلاً»، اختتم القاضي المنفرد الجزائي زياد مكنّا كلّ جلسات المحاكمة التي عقدت برئاسته أمس في القاعة الرقم 8، المتفرعة من قاعة «الخطى الضائعة» بقصر العدل في بيروت. غاب عن هذه القاعة، النظيفة والمضاءة، ضجيج السيارات والشاحنات، لبعدها عن الطريق العام. كذلك، كان بمقدور كاتب المحكمة المزوّد بمكبر للصوت المناداة على المدّعين والمدّعى عليهم من دون حاجة للصراخ. وخلال الجلسات، هدوء في القاعة سمَح بسماع صوت القاضي الهادئ، والمتقاضين وموكّليهم. لكن القاعة المذكورة، والقاعة الرقم 5، التي قامت «الأخبار» بتغطية الجلسات التي أجريت فيها، تشتركان بانعدام تكييف الهواء، ما يؤدي إلى تصبّب عدد من الموجودين في داخلها عرقاً. لكنّ اللمسة الإنسانية الحازمة للقاضي المنفرد الجزائي في بيروت زياد مكنّا لطّفت جوّ القاعة التي ضمّت 55 موقوفاً لم يتّسع لهم قفص الاتهام، فوقف عدد كبير منهم في الفسحة الفاصلة بين قفص الاتهام وباب القاعة.
كان القاضي ينادي على الموقوف، فيخرجه عناصر الأمن من القفص بعد نزع الأصفاد من يديه، ليقف بمواجهة قوس المحكمة إلى جانب محاميه في حال وجوده، وبموازاة المدّعي مع وكيله القانوني.
القاضي مكنّا، الذي كان حازماً في تأنيبه أحد العسكريين من دورية السوق بعدما رآه يدفع أحد الموقوفين دفعاً داخل قاعة المحكمة، لم يقبل بأن يصعد موقوف مسنّ مريض ثلاث درجات للوصول إلى قفص الاتهام، فطلب من أفراد الأمن الداخلي إبقاءه في القاعة خارج القفص، لينهي الملف الذي بين يديه، على أن تكون محاكمته هي التالية نظراً لوضعه الصحي، تمهيداً لإخراجه من قاعة المحكمة. ثم أعطى القاضي تعليماته لأفراد دورية السوق بإخراج كلّ مدعى عليه انتهت محاكمته، كي يتمكّن الموقوفون من الجلوس. في هذا الوقت، رأى موقوفاً يجلس على سور قفص الاتهام، فطلب منه الوقوف. قال الموقوف إنه مصاب بطلقات نارية في رجله، فأمر القاضي بإفساح المجال للمصاب من أجل إجلاسه على المقعد داخل القوس.
القاضي الذي لم يستثنِ موقوفاً أو مدّعياً أو محامياً أو عنصراً أمنياً من الابتسام، وحافظ على ابتسامته ولطفه طوال سير المحاكمات، التي ذكّر، كلّما حاول أحد الموجودين تعكير نظامها، بضرورة الحفاظ على الأصول، لم يرضَ بأن يمنع انقضاء الدوام الرسمي من إبقاء أحد المدّعى عليهم قيد التوقيف، بعدما أخلي سبيله بسند كفالة، فطلب من أحد الموظفين إتمام المعاملات اللازمة لإخلاء السبيل، وهو أمر يقوم به عادة وكيل المدعى عليه أو أحد أقاربه. فقد تبيّن للقاضي زياد مكنّا أن الهيئة السابقة كانت قد قرّرت إخلاء سبيل الموقوف الماثل أمامه، فسأله عما إذا كان في القاعة أحد من أقاربه ليدفع الكفالة في الصندوق، كي لا يبقى في السجن، فأشار الموقوف إلى شقيقه الذي وقف في قاعة المحكمة. طلب القاضي مكنّا من الأخير أن يأخذ بعد انتهاء الجلسات مذكرة إخلاء السبيل ليدفع كفالة شقيقه على الصندوق، ثم تنبّه إلى أن الدوام سيكون قد انتهى في ذلك الوقت. عندئذٍ نادى القاضي مكنّا على أحد الموظّفين، طالباً منه أخذ الملف وإعداد مذكرة إخلاء سبيل فوراً ليتمكّن شقيق الموقوف من دفع الكفالة خلال الدوام الرسمي.
تقاطع الجلسات برنين هاتف أحد عناصر دورية السوق داخل القاعة، رغم اللافتة الملصقة على مدخل القاعة بمنع استخدام الهاتف الخلوي داخل القاعة، فأمر القاضي بمصادرة هاتف العنصر الأمني، ومنع رئيس الدورية من التدخّل في هذا الأمر.
في إحدى الجلسات، استوقف المدعى عليه رئيس المحكمة ليعبّر عن عدم فهمه لما يحصل. توقّف القاضي عن الإملاء على الكاتب، وفسّر بالعامية للموقوف ما فاته من الإجراءات القانونية.
بعدها، نادى الكاتب عدداً من الموقوفين، فطلب القاضي من الحضور، من غير المحامين الانتظار خارج قاعة المحكمة، لأن أحد المدعى عليهم في هذه القضية قاصر، وعملاً بقانون حماية الأحداث، ينبغي أن تكون الجلسة سرية. اختتمت الجلسة، فسمح القاضي بالعودة إلى القاعة، وعندما لاحظ أن باب القاعة مغلق، طلب من عناصر الدورية فتحه «لتكون الجلسة علنية بالكامل». في هذا الوقت، كان أحد الموقوفين يخاطب القاضي الذي كان يستمع إليه مبتسماً، ثم قال له: «اترك إدارة الجلسات عليّ، لقد اطّلعت على الملف»، ثم فسّر للموقوف المعترض، سبب طلب هذا الإجراء.
تقدّمت موقوفتان آسيويتان بعد المناداة عليهما. لم يجد العسكري المفتاح لفك قيدهما، فغضّ النظر عن هذا الأمر. استوقفه القاضي طالباً منه فك الأصفاد، وانتظر مثولهما مخفورتين من دون قيد قبل البدء بتلاوة أوراق الدعوى. وعندما تبيّن غياب المترجمة، وعدم عودة ورقة دعوتها، قرّر القاضي مكنّا تكرار دعوتها وانتظار المحامي الموكّل من السفارة، فأرجئت الجلسة.
في إحدى الجلسات، سأل القاضي أحد الموقوفين: «ماذا تطلب لنفسك؟»، أجاب: «الرحمة والعدالة يا ريّس»، فكرّر القاضي سؤاله موضحاً أن المحكمة لا تسجل «العدالة» أو«الشفقة والرحمة» لأنّها من صلب عملها، ويقتصر التسجيل على الطلبات القانونية وهي: الإدانة أو البراءة أو وقف التعقب أو إخلاء السبيل أو منح الأسباب التخفيفية.
في جلسة تالية، طلب أحد الموقوفين من القاضي خفض الكفالة من 400 ألف ليرة، لأنه يتيم الوالدين ولا معيل له، وهو موقوف منذ 25 يوماً. فسأله القاضي عن المبلغ الذي في استطاعته أن يدفعه، فأجاب الموقوف: شي 50 دولار. تمهّل القاضي قبل اتخاذ القرار، ثم نظر إلى الموقوف المدعى عليه بجرم تعاطي الحشيشة، مبتسماً وقال: 200 ألف ليرة حتى تحسّ فيها.
وفي إحدى المرافعات، أخطأ المحامي برقم المادة القانونية، فصحح له القاضي الذي لم تفارقه الابتسامة. اعتذر المحامي قائلاًً: «منضل نتعلّم منكن يا ريّس». يجيب مكنّا: كلنا هون منتعلّم من بعض.