إبراهيم الأمين
هل صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية قالت كلاماً حاسماً في رفض احتمال عقد تسوية على تسمية العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في ظل الانقسام الحاد داخلياً وخارجياً؟
يوجد في بيروت من يعتقد بذلك. ومن دون تجاهل مواقف الأطراف الداخلية فإن مواقف القوى الخارجية تبقى الأساس، لأن الأميركيين، وإن تأثروا بشكل أو بآخر بمطالب فريق 14 آذار وآرائه، سوف يدرسون الأمر في النهاية وفق مصالحهم هم، أو وفق نظام المصالح الإجمالي الذي يتجاوز حسابات لبنانية داخلية. ويراهن أصحاب هذه الوجهة على موقف نهائي للولايات المتحدة لا يصدر قبل عودة السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان عائداً من واشنطن. وينقل هؤلاء عن الأخير أنه سبق أن وافق على خيار التسوية هذا، وأنه أبلغ قائد الجيش نفسه ومباشرة في لقاء طويل عقد بينهما بأنه لا يمانع هذه الصيغة الإنقاذية، ونقل أيضاً عن فيلتمان قوله في عشاء أقيم على شرفه قبل سفره الأخير من بيروت إن احتمال تعديل الدستور وارد بقوة وإن هناك آراءً متبادلة، ولكنها غير محسومة حتى الآن.
أما لماذا تغير الموقف الأميركي، فإن أصحاب الوجهة نفسها يعتقدون بأن التغيير الجذري لم يتم حتى الآن، وعندما يشيرون الى أنهم يتركون الصورة النهائية لحين عودة السفير فيلتمان، فإنهم يعتقدون بأن ما صدر حتى الآن من مواقف وبيانات تتضمن تناقضاً أو إبهاماً يعود الى أن الولايات المتحدة تتصرف وفق تكتيك قد يكون محسوماً خلال أسبوعين على أبعد تقدير، وهو الأمر الذي من شأنه إفساح المجال أمام سلوك مختلف. وعندما يبدو هذا الكلام محل استغراب، يعود أصحاب الرأي نفسه الى ما حصل من نقاشات وخطوات سابقة على سفر فيلتمان، ومنها أن الفكرة التي ورد العماد سليمان في سياقها مرشحاً للرئاسة، جاءت ضمن سلة تقوم على أساس أن الانقسام القائم حالياً من شأنه منع انتخابات رئاسية توافقية، وأن السعي الى توسيع حصانة الجيش لمواجهة احتمالات الخراب الأهلي يتطلب دوراً إضافياً لهذه المؤسسة، وأن إقناع الرئيس إميل لحود بالتخلي عن فكرة الحكومة الثانية التي سوف تقود حتماً الى شكل من أشكال الانقسام السياسي، يتطلب خطوة من هذا القبيل، وهو أصلاً متحمّس لخطوة من هذا النوع بخلاف كل ما يشيعه فريق 14 آذار من أن مشكلة سليمان سوف تكون مع لحود ومع العماد ميشال عون لا مع الآخرين.
والفكرة، كما يرويها أصحاب الرأي نفسه، تقول إن فريق 14 آذار يريد رئيساً منه، وهو أمر سيؤدي حتماً الى انقسام في لبنان حتى لو اعترف به العالم كله، وإن المعارضة تريد الآن العماد عون، وهو الأمر الذي ترفضه قوى 14 آذار ما لم يتغير موقف دولة كبرى. وبالتالي فإن نظرية إعادة تكوين السلطة تحتاج الى خطوات تمهيدية تندرج تحت عنوان «المرحلة الانتقالية»، وهي المرحلة التي أقيمت على فكرة أن يُنتخب سليمان لعامين تتألف خلالهما حكومة وحدة وطنية تتولى إعادة الحوار حول مسائل كثيرة، من بينها المسائل الخلافية، وتتولى إعداد قانون انتخابي يُقرّ في المجلس بأغلبية واضحة، ليصار الى إجراء انتخابات نيابية في موعدها الدستوري، ويلي ذلك انتخاب رئيس جديد وتشكيل سلطة جديدة في المجلس النيابي والحكومة.
وإذ بدا أن البطريرك الماروني نصر الله صفير وافق على المبدأ فهو أجرى مشاورات مع أطراف خارجية، من بينها الفاتيكان، شجعته على السير بالخطوة إذا كان فيها ما يمنع الانفجار وما يحول دون تعرض آخر المواقع المسيحية في السلطة اللبنانية للاندثار. ونقل عن دبلوماسي معني في هذا المجال أن الخشية لدى الفاتيكان انتقلت أيضاً إلى التدهور الذي يصيب كل التجمعات المسيحية في الدول العربية، وأن انقساماً لبنانياً جديداً سوف يترك البلاد بأيدي المسلمين المتنازعين على السلطة وسوف يبقى لبنان حتى إشعار آخر من دون رئيس للجمهورية، وهو الأمر الذي سيؤثر حتماً على الوضع المسيحي عموماً في لبنان.
لكن صفير الذي وافق، يقول أصحاب الرأي نفسه، أبدى تحفّظاً على فكرة الفترة الانتقالية، وقال صراحة إنه يخشى أن يصبح هذا عرفاً وأن يعمل به في وقت لاحق، وأنه يدعم الفكرة شرط أن تكون الولاية كاملة ولفترة ست سنوات، وهو الأمر الذي عارضه أطراف كثر من الفريقين الموالي والمعارض. وفي هذه الأثناء كانت عواصم عربية وأوروبية قد وضعت في الأجواء، لكن فرنسا لم تدخل مباشرة في النقاش بسبب سوء العلاقة والقطيعة التي قامت بين السفير السابق برنار إيمييه وقائد الجيش لأسباب لا يزال قسم كبير منها غير معلوم، بينما سارت الأمور جيداً مع السفير الأميركي.
ويضيف أصحاب الرأي نفسه أن الباحثين في الأمر وجدوا مخرجاً لأزمة الولاية، من خلال القول بأن الانتخابات تتم على أساس ولاية كاملة، وأن قائد الجيش يتعهد في خطاب القسم أو بوسائل أخرى أو في أول جلسة للحكومة الجديدة، بأنه سوف يقود البلاد حتى إجراء انتخابات نيابية جديدة، وبعدها سوف يستقيل تاركاً المجال أمام ممثلي الشعب لاختيار رئيس جديد للبلاد. وهو وجد في هذا المخرج ما يرضي المعترضين من فريقي السلطة والمعارضة. لكن الأمر عاد وتوقف فجأة بسبب بروز مواقف من جانب فريق الأكثرية تمثلت أولاً في اعتراض كبير عند النائب وليد جنبلاط وعند الدكتور سمير جعجع. وقد حمّل الأخيران الرئيس بري المسؤولية عن كل هذه الصفقة، ولم تعجبهما أصلاً فكرة التشاور معه حتى من قبل المرشحين للرئاسة من أعضاء فريق 14 آذار. واتفقا ضمناً أو مباشرة على ضرورة تعطيل «الدور التوفيقي» لرئيس المجلس، وإعادته الى موقع الخصم بصورة كاملة، وهو ما فسّر الحملة المفاجئة والمتزامنة لكل من جعجع وجنبلاط على الرئيس بري شخصياً. وهو ما فهمه بري أصلاً، وهو الذي حاذر في رده المباشر أو غير المباشر تحقيق هدف «أميري الحرب» في دفعه الى مواقف من شأنها فرز البلاد بصورة نهائية الى معسكرين.
وعليه يبدو أن أصحاب وجهة النظر هذه، يعتقدون صراحة بأنه ليس في أفق البلاد الواضح الآن سوى مخرج الحكم الانتقالي أو الذهاب سريعاً نحو مواجهة ستؤدي أولاً الى انقسام كبير على مستوى مؤسسات الدولة وبعض إداراتها، حتى الأمنية منها، لكن أصحاب هذا الرأي يجزمون بأن الجيش لن يتعرض لاهتزاز لأن القوى القادرة على هزّه وحتى فرطه هي القوى المسيطرة الآن على المعارضة وهي صاحبة مصلحة في عدم حصول هذا الأمر تحت أي ظرف.