جوان فرشخ بجالي
تقدّمت وزارة الثقافة أخيراً بمشروع قانون لحماية الأبنية التراثية. وفي انتظار مناقشته في المجلس النيابي (عندما ينعقد) لإقراره، بعدما وافق عليه مجلس الوزراء. نحاول في ما يلي مناقشة بعض البنود الإشكالية فيه مع النقيب السابق ورئيس جمعية APSAD سابقاً المهندس عاصم سلام والمهندسة المعمارية
والعضو بجمعية APSAD منى حلاق


يعدّ إقرار قوانين تحمي الأبنية التراثية خطوة إيجابية بامتياز، لأن هذه قوانين تحفظ هوية الوطن ومصلحة المواطن وتحمي للأجيال القادمة بعضاً من التاريخ المعماري الخاص. انطلاقاً من هذه المبادىء تقدّمت وزارة الثقافة بمشروع قانون لحماية الأبنية التراثية إلى مجلس الوزراء الذي وافق عليه وأحاله على المجلس النيابي الذي لم ينعقد منذ أشهر. ولكن، حينما تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، ستبحث اللجان النيابية مشروع القانون هذا وقد تطلب تعديلات وإيضاحات له... والجدير بالذكر أن هذا القانون يتطلب عدة توضيحات، وخاصة تلك المتعلقة بالتعويضات وباللجنة الفنية الاستشارية وتصنيف الأبنية.

بيع عامل الاستثمار

يعتبر الشعب اللبناني أن إحدى مهمات الدولة الأساسية تكمن في دفع التعويضات، مهما كانت أسباب الضرر الذي لحق به، فكيف إذا تعلق الأمر بالأبنية التراثية؟ وخصوصاً في العاصمة بيروت حيث ترتفع أسعار العقارات؟
هنا تبدأ المطالبة بالتعويضات أو السماح بالهدم لإنشاء أبنية حديثة مرتفعة ومربحة مادياً، ما كان يؤدي الى التصادم مع وزارة الثقافة التي لا تملك في موازنتها الأموال الكافية لدفع مبالغ التعويض المطلوبة... لذا حاولت الوزارة في هذا القانون «الاحتيال» على الواقع وإبعاد ملف التعويضات عنها بالسماح لأصحاب العقارات «ببيع فائض عامل الاستثمار»، أي يحق لكل مالك بيت أثري أن «يبيع الهواء»، أي الأمتار الوهمية التي لن يستعملها.
يشرح النقيب السابق ورئيس جمعية APSAD سابقاً المهندس عاصم سلام هذه الحالة بمثل حيّ فيقول «يتألّف منزلي من طبقة واحدة وله حديقة وهو مبني في منطقة يحق لأصحاب العقارات فيها تشييد بناء يرتفع إلى عشر طبقات. ولكن بما أنني لن أهدم بيتي وأحوّل حديقتي إلى مبنى شاهق، وتعويضاً لي عن قراري هذا، تسمح لي الدولة بيع الهواء، أي المساحة التي بإمكاني أن أرتفع فيها إلى أي مستثمر آخر من دون أن تحدّد المناطق أو طرق نقل عامل الاستثمار هذا». وهنا يتساءل سلام «هل المحافظة على المنطقة تعني تشويه أخرى؟ بيع أمتار يعني إعطاء أصحاب الأبنية العالية الحق بالارتفاع أكثر في السماء، وهذا تشويه آخر للمدينةوعند مبدأ التشويه هذا يقع الاختلاف في الرأي بين المهندسة المعمارية والعضو بجمعية APSAD منى حلاق والنقيب سلام. فحلاق تنطلق في فكرتها من الواقع الحالي القائل «يجب أن يكون هناك تعويض وإلا لن يكون هناك محافظة. ولأن الأبنية الشاهقة هي حتمية وتشويهاً أيضاً واقع لا محالة، فلم لا أعطي هذه الأبنية الحق بالارتفاع أكثر ما دام ذلك يعني المحافظة على حي ذي طابع أثري». وتعطي مثلاً فتقول «إن الناطحات المبنية في منطقة Marina Tower مرتفعة بالنسبة إلى المدينة، وأن يزيد ارتفاعها بضعة طوابق لن يغيّر من المشهد العام لبيروت... فلم إذاً لا أحافظ على منطقة رأس بيروت وكليمنصو لو باع أصحاب العقارات أمتارهم الوهمية الى أصحاب الأبنية الشاهقة تلك؟».
ولكن تتفق حلاق مع سلام على ضرورة أن يلحظ القانون كيفية التطبيق في نقل عامل الاستثمار، وتقول إن الدراسة التفصيلية لبيروت التي أتمّتها APSAD سنة 1997 كانت قد طرحت كيفية نقل عامل الاستثمار بالنسبة إلى المناطق الأربع التي صُنّفت حينها، والدراسة تلك قد أعطيت لوزارة الثقافة، لذا لا حاجة لتوكيل مكاتب هندسية بإجراء دراسة أخرى. وتلحظ مؤسسة APSAD فكرة أخرى في دفع التعويضات لأصحاب البيوت التراثية وهي «الضريبة الشرفية»: أي يدفع مالكو العقارات المجاورة والمطلّة على الأبنية التراثية مبلغاً سنوياً لأصحاب تلك البيوت كضريبة لاستفادتهم من حدائقها والعصافير التي تعيش فيها ومن الهواء النقي وأشعة الشمس التي لا تحجبها بما أنها غير مرتفعة.
وقد ولدت فكرة إنشاء «الضريبة الشرفية» تلك بعدما بدأ أصحاب المباني الجديدة بتسويق عقاراتهم على أنها مطلة على حدائق «قصر سرسق» أو «بيت جنبلاط»... ولا تزال فكرة الضريبة قيد الدرس في وزارة الثقافة وكل المؤسسات العاملة في هذا الإطار.

السلطة المسؤولة

من جهة ثانية، يعطي قانون الأبنية التراثية لـ«اللجنة الفنية الاستشارية» التي تصنّف المباني والأحياء السكنية، سلطة واسعة المدى. فهي مؤلفة من مسؤولين في المؤسسات العامة وبعضالاستشاريين، وتتبع في هيكليتها أكثر الى التنظيم المدني منها الى وزارة الثقافة. لذا يقترح النقيب سلام «استبدال» هذه اللجنة بـ«مجلس أعلى للحفاظ على التراث» أو «هيئة أهلية» تواكب جميع مراحل تطبيق القانون وتكون مؤلفة من أهل اختصاص في الهندسة المعمارية وعلم الاجتماع... ويترأسها طبعاً وزير الثقافة وتعمل بحرية إذ لا تتبع لأي إدارة رسمية بحتة. ويقترح النقيب أن يواكب هذا المجلس «إنشاء جردة كاملة للتراث اللبناني المبني وأن ينظم عمل الحفاظ وشروط الترميم وأن يواكب الأنظمة لدى المديريات المختصة، ويفعّل دور البلديات في الحفاظ على التراث المبني».
أما بالنسبة إلى التصنيف، فقد يشكل هذا القانون خطراً على الأبنية التراثية إن لم تحدد الهيكليات والأطر الأساسية للعمل على أساسه في القريب العاجل. وتشرح منى حلاق ذلك بالقول إن «لبيروت تصنيفاً حالياً يُعمَل به للمحافظة على المباني التراثية، ولكن حينما يقرّ هذا القانون، سيبطل التصنيف الأولي تلقائياً ويبدأ العمل بحسب القانون. وهنا تكمن المشكلة، فما الذي سيحدث؟ هل ستصنّف اللجنة الفنية كلّ لبنان قيد الدرس وتُعطى مهلة ستة أشهر لإتمام التصنيف؟ أم سيستفيد أصحاب العقارات من الواقع ويبدأ الهدم؟»، وترى حلاق أن «من الضروري أن تُقرّ في أقرب وقت لجان تعيد تأكيد التصنيف السابق وتحدد مناطق النسيج العمراني المهمة التي يجب المحافظة عليها».

من يحمي القرى؟

أما مشكلة هذا القانون الكبرى فهي أنه «محوك» لحلّ مشاكل الأبنية التراثية في بيروت لا في لبنان. فالأحياء التاريخية في القرى مثلاً لا تجد فيه ما ينقذها من الهدم، ولا الدافع للمحافظة على نسيجها العمراني. فبحسب القانون تدفع التعويضات «بنقل عامل الاستثمار»، ولكن من في القرى يطمح لبيع أمتاره الوهمية تلك وأسعار العقارات في المناطق النائية بخسة، وهذا إن توافر الشاري؟
إن مشكلة الأبنية التراثية في القرى تكمن في صعوبة المحافظة عليها لأن كلفة الترميم والتأهيل عالية كثيراً بالنسبة إلى سكانها الذين يبحثون داخل مؤسسات الدولة على وسيلة لدعمهم مادياً. بالنسبة إلى النقيب سلام «تكمن مشكلة القرى في خلق المؤسسة العامة للأبنية التراثية التي لها حرية التحرّك السريع وصرف الأموال». أما بالنسبة إلى حلاق «فإنشاء صندوق دعم للأبنية التراثية هو الطريقة الفضلى لإيجاد الأموال الضرورية لهذا القطاع في القرى. ولكن يجب أن يتمتع هذا الصندوق بهيكلية شفافة خاصة به بعيدة عن مؤسسات الدولة والوزارات لأن أصحاب الهبات الخاصة يفضلون ذلك». قد يأخذ مشروع إقرار هذا القانون فترة طويلة من الزمن... ولكن يبقى الأمل الكبير بألا يضيع في أدراج اللجان النيابية فلا يقرّ أبداً. أما الخوف فهو أن يعمد وزير جديد للثقافة إلى مشروع قانون جديد ما قد يؤخر الملف إلى زمن غير محدد.




حاجة للكوادر

بناءً على القانون المقترح من وزير الثقافة طارق متري والذي يلحظ وجود مؤسسات عامة مرتبطة بوزارة الثقافة، يتساءل النقيب عاصم سلام عن إمكانية إنشاء مؤسسة عامة للحفاظ على الأبنية التراثية. ويقول سلام في هذا الإطار «إن مؤسسة من هذا النوع تكون أكثر فعالية من «مديرية المنشآت الأثرية والتراث المبني» المقترحة في القانون والتي لم يلحظ أي تفصيل عنها أو عن تأسيسها أو هيكليتها. وإن للمؤسسة العامة مرونة في التعاطي مع موضوع حماية الأبنية التراثية لسهولة التمويل والتنفيذ إذ إن لها الحق بالحصول على هبات خارجية بشكل مباشر». ومما لا شك فيه أن حصول مؤسسة عامة للحفاظ على التراث المعماري على هذا النوع من الحرية في العمل يسهل مهماتها ويعطي للقرى وباقي المناطق اللبنانية الدعم اللازم للمحافظة.
ويلحظ القانون المقترح ضرورة خلق هيكلية متخصصة لتصنيف الأبنية التراثية وحمايتها، ويطالب «بخلق منصبين لمهندسين مختصين في ترميم الأبنية التراثية يتمتعان بخبرة لا تقل عن ثلاث سنوات» يكونان هم المسؤولين عن إنشاء الملفات وملاحقتها، ما يطرح السؤال عن قدرة شخصين فقط على الاهتمام بالتراث العمراني لكل لبنان؟ فهذا عمل يتطلب فرقاً كاملة مختصة تعمل ضمن حدود الأقضية لا في كل أرجاء الوطن.
ويحدد القانون في مقدمته مفهوم التراث وطريقة التعاطي معه، وهذا التحديد «من الإيجابيات التي تجدر الإشارة إليها» كما يقول النقيب سلام. ولكن يبقى التساؤل عن سبب ضياع هذا المبدأ في صياغة القانون، والرمي بهذا الملف على عاتق المديرية العامة للآثار، مع العلم بأن هناك اختلافاً في المبادئ والتحديد ما بين الآثار والتراث. وإن المديرية العامة للآثار بشكلها الحالي «غير قادرة على استيعاب حاجات ملف الأبنية التراثية التي يتطلب العمل عليها كوادر مختصة».