جان عزيز
لماذا تحدّث النائب جورج عدوان فجأة عمّا تحدث عنه يوم أمس في مداخلة تلفزيونية؟ فوسط السجال الرئاسي العنيف حول النصاب الدستوري، واحتمالات التوافق أو عدمه، ووسط التراشق الأعنف الذي أطلقته مواقف وليد جنبلاط، كان مفاجئاً أن يثير نائب رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية مواضيع أخرى: ظاهرة التسلّح والشائعات المتزايدة حولها، والاتهامات المركّزة أو العشوائية لبعض الأطراف في هذا الإطار، والإشارة خصوصاً، وفي شكل محدد، إلى أمر ما يجري في هذا السياق في بعض مناطق قضاء بعبدا. حتى إن عدوان عمد إلى تسمية بعض القرى والبلدات، متحدثاً عن إجراءات مريبة تحصل فيها، ومطالباً قيادة الجيش ومديرية مخابراته بجلاء الأمور.
لماذا هذا الكلام؟ ولماذا صدوره عن عدوان بالذات؟
مطّلعون على ما تحت الأرض السياسية، يشيرون إلى أنه منذ نحو سبعة أشهر، وتحديداً منذ أحداث 23 كانون الثاني الماضي وما تلاها، ثمة حال من الاستنفار النفسي تسود العلاقة الميدانية بين الأطراف المسيحيين. أول عوارض هذه الحال، انقطاع عدوان عن زيارة الرابية، وهو من دأب على الاتصال البيني على خط ميشال عون ـــــ سمير جعجع، منذ منتصف الثمانينيات. ولم يلبث هذا الانقطاع أن تفاقم حتى بلغ القطيعة، ثم بدأت إشارات انعدام الثقة، وصولاً إلى الصدام الكلامي الذي بدا واضحاً في الآونة الأخيرة.
غير أن الأهم من هذا التوتر السياسي، كان موجة الأخبار المتبادلة والمنقولة إلى كل من الطرفين، عن استعدادات ميدانية وعملية متقابلة. وقد يكون عدوان أكثر القادرين على فهم غايات هذه الأخبار، وتقدير حقيقتها. فهو من جهة تخصص طويلاً في محاولة معالجتها أواخر الثمانينيات، حتى اختار إعلان يأسه واعتزال الدور الذي انتدبه لنفسه في تلك الفترة. وهو من جهة أخرى على علاقة تاريخية ببعض مصادر تلك الأخبار، كما بالمراجع المفترض بها معالجتها ومواجهتها.
ولا شك أن نائب الشوف قد اطّلع من «مواقعه» المختلفة تلك على كمٍّ كافٍ من هذه الأخبار المتناقلة، ومنها ـــــ على سبيل المثال ـــــ ما نُقل عن رئيس حزب مسيحي موالٍ من أن رئيس حزب آخر حليف له فاتحه قبل أشهر بضرورة الاستعداد ميدانياً وعملياً، للحظة الانفجار المسلح للصراع السني ـــــ الشيعي، كما توقع الأخير. وفي السياق نفسه، تروي القصة المنقولة أن السياسي المقصود بخطة الاستعداد، اقترح سلسلة إجراءات داخلية وخارجية، تتوّج بالقدرة المسيحية في لحظة الانفجار، على مخاطبة الغرب بلغة واقعية مفادها أنه لم يعد في الإمكان الحفاظ على البنية الموحدة للدولة اللبنانية، وبالتالي فإن تغيير شكل الدولة بات من باب الضرورة. كما تتوّج بالجهوزية العملانية داخلياً لتجسيد هذا الطرح.
وتضيف الرواية أن رئيس الحزب الذي فوتح بالموضوع، لم يوافق عليه وأبدى تحفظه حياله، فكرةً ومسعى.
ومن الأخبار الأخرى المتناقلة أيضاً، أن المسألة نفسها عُرضت على مرجع روحي كبير، لكن عبر مقاربة مختلفة في الشكل، لكنها واجهت الجواب نفسه في المضمون.
ولا بد أن عدوان قد اطّلع أيضاً على الروايات المنقولة بواسطة جهات أمنية رسمية، عن انتشار مسلح كامل، على خط تماس سري، يبدأ من الطيونة، وينتهي في بلدة الحدث في بعبدا، وذلك في شكل ثابت ودائم. وتقول هذه الروايات إن خط التماس المستحدث تشكله مجموعة مكاتب حزبية، وشقق مستأجرة أعدّت خصيصاً لهذه الغاية على طول هذا الخط يشغلها عناصر حزبيون، وهي تحظى بتغطية عسكرية من أحد أجهزة السلطة، علماً بأن هذه الروايات تقدم قراءة سياسية ـــــ أمنية ـــــ عسكرية للخطوة، تتراوح بين حد أدنى عنوانه افتعال سلسلة إشكالات مسيحية ـــــ شيعية قابلة للاستثمار في السياسة وفي التأثير على المزاج المسيحي، وحد أقصى عنوانه حماية ظهر وليد جنبلاط، وتأمين التواصل الجغرافي ـــــ العسكري بين أطراف السلطة، عند اندلاع الشرارة.
وقطعاً لا بد أن يكون عدوان على اطلاع على الأخبار المضادة المنقولة. ومنها أن تياراً سياسياً معارضاً اتخذ قراراً نهائياً وحاسماً بعدم السماح بتكرار ما حصل معه على الأرض، في 21 تشرين الثاني الماضي، غداة اغتيال بيار الجميل، أو في 23 كانون الثاني، إبّان الإضراب المعارض. وفي السياق نفسه ثمة روايات أخرى تُسَوَّق، منها تبادل التنسيق المسيحي ـــــ الشيعي في مثلث ساحل المتن الجنوبي، الذي يشكل نقطة التلاقي المتفجر بين وليد جنبلاط والقوى المسيحية والثنائي الشيعي المناوئ له.
وسط هذه الأخبار المتناقضة، قد يكون جورج عدوان أكثر الناس قدرة على معرفة الصحيح من الدس، والوقائع من التحريض. وقد تكون خبراته وعلاقاته السابقة والدائمة هي المعني الأكبر لتبيان إذا كان ثمة مَن يدأب على شن حرب نفسية على الأطراف المسيحيين، وعلى إغراقهم في مستنقع من الشائعات بهدف جرّهم إلى المحظور نفسه الذي وقعوا فيه سابقاً. وهذا ما يفرض منطق تقصّي الروايات ومصادرها وأغراضها، وخصوصاً أن الساحة المسيحية تبدو الوحيدة المفتوحة على خاصتين: التسيّب الأمني الكامل من جهة، وقابلية التبدّل المزاجي السياسي من جهة أخرى. والعاملان المذكوران هما ما يجعل من هذه الساحة أرض كل المعارك الحاصلة اليوم، في السياسة والإعلام والدبلوماسية والعسكر والأمن.