strong>داني الأمين
  • ثلاثون عاماً تفصل تدمير حانين عن تدمير جاراتها: الحياة غائبة

  • تحوّلت حانين، قضاء بنت جبيل، من بلدة هُجِّر جميع سكانها
    عام 1976 بعدما دمّر الاحتلال الاسرائيلي كلّ بيوتها، إلى بلدة تستقبل أهالي القرى المجاورة التي دمّرت بالكامل أيضاً في الحرب الاسرائيلية الأخيرة، رغم أنها تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة

    تتوارى بلدة حانين عن أنظار الزوّار والعابرين على الطرق العامة الرئيسية لقضاء بنت جبيل. من يريد أن يراها عليه أن يقصدها. هناك يكتشف خلوّ شوارعها من المارّة، ويكاد يخيّل لزائر البلدة أنها فارغة من السكان، باستثناء بعض العمّال الموجودين في الورش وعلى جنبات الطرقات لإعادة بناء بعض المنازل المهدّمة. وتدلّ البيوت الموجودة على أنها حديثة البناء، فلا أثر لأي منزل قديم من الحجر أو خلافه كما القرى والبلدات الجنوبية الأخرى التي تنتشر فيها المنازل القديمة المشيرة إلى تاريخ البلدة القديم، لكن هذا لا يعني أن البلدة حديثة، إذ إن البناء هو المشيّد حديثاً فقط.
    فقد استعادت حانين، بين عامي 2000 و2006 مبانيها التي هدمت عام 1976، لكنها لم تستعد الحياة وفرص العمل وشتلة التبغ مورد الرزق الأساسي للأهالي. وعلى رغم أنها تحتضن اليوم عدداً من عائلات القرى المجاورة الذين فقدوا بيوتهم خلال الحرب الأخيرة، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى أبرز مقومات الحياة إذ تختفي كلّ مظاهرها بين بيوتها الجديدة وأبراجها اللافتة، أما مدرستها الكبيرة الحديثة البناء، التي تطلّ من أعلى تلالها، فهي لم تفتح أبوابها لطلاب البلدة، بسبب قلّة عددهم، لكنها ستستخدم هذا العام بديلاً من مبنى مدرسة الإشراق التابعة لجمعية المبرات الخيرية التي هُدم مبناها الكائن في بنت جبيلبعد التحرير، قرّرت بعض الأسر العودة إلى البلدة ولو من دون منازل، فسكنت نحو 12 عائلة في خيم أقاموها قرب منازلهم المدمرة إلى أن كانت لفتة دولة الكويت الشقيقة، إذ تبرّع «الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية» بإعادة إعمار البلدة وبنى 287 وحدة سكنية بقيمة 20 ألف دولار أميركي عن كل وحدة سكنية، بالتنسيق مع مجلس الجنوب. وتقرّر أن يقوم الصندوق بتغطية نفقات البناء لـ287 وحدة على قاعدة بدل وحدتين سكنيتين لكلّ أسرة، بقيمة 20 ألف دولار عن كل وحدة، على أن يدفع مجلس الجنوب الثلث الباقي، أي ما يعادل بدل بناء وحدة سكنية لكل أسرة، ريثما تقرّ له الموازنة، وهذا ما لم يحصل حتى الآن.
    وقام الصندوق الكويتي أيضاً بإنشاء البنية التحتية كاملة، وتعبيد 12 كلم من طرقات البلدة وإنشاء شبكة للمياه وشبكة للكهرباء ومدرسة حديثة. وتكريماً لجهود دولة الكويت ومبادرتها في إعادة إعمار حانين، قام مجلس الجنوب ببناء أبراج شبيهة بأبراج الكويت على التلة المشرفة على البلدة. تزيّن البلدة، إضافة الى أبراجها الثلاثة ومدرستها الكبيرة، ثلاثة مساجد، شيّد اثنان منها حديثاً على نفقة بعض الخيّرين، وآخر كان قديماً هُدم وأعيد ترميمه.
    البلدة جديدة الآن، وتتسع مبانيها لأهاليها النازحين والمهاجرين الذين يحاولون كل يوم العودة الى بلدتهم، ليعودوا خائبين الى مهجرهم وأماكن نزوحهم، فالأمر يحتاج الى مقوّمات أخرى للبقاء، مثل العمل والإنتاج. لم يسكن حانين حتى الآن إلاّ حوالى 20% من أبنائها الذين ولد أغلبهم خارجها. أما المقيمون فهم من الذين يعتمدون في معيشتهم على ما يرسله أبناؤهم من المهجر، أو الذين لم يتيسّر لهم العيش خارجها أو فضّلوا العودة على رغم كل الصعاب.
    في صيف عام 2006، نزح المقيمون في حانين الى مدينة صيدا وجبل لبنان وسوريا، وعادوا جميعاً بعد الحرب ليجدوا أن منازلهم تهدم بعضها وتضررت بأغلبها. لكنهم قرروا البناء من جديد، وهذا ما يحصل الآن. وعلى رغم الدمار الذي لحق البلدة، إلاّ أن الكثير من المنازل غير المهدمة ما زال صالحاً للسكن، وخاصة تلك التي تحتاج الى ترميم بسيط، وقد كانت حانين ملجأ القرى المدمرة الأخرى مثل عيتا الشعب وبنت جبيل وحاريص... فحوالى 12 أسرة من عيتا الشعب تقطن الآن في حانين وتُعامل كأنها من أبناء البلدة، كما يشير مختار البلدة حسن علي قشاقش «لا فرق بيننا وبينهم، فنحن أبناء بلد واحد، وقد عانينا التهجير والنزوح قبلهم، ونحن على استعداد لتقديم كل شيء لهم».
    لكن ماذا تقدم البلدة التي تحتاج إلى الكثير لتستعيد أبناءها إليهاتعاني حانين مشكلات كثيرة، وربما أكثر من البلدات الأخرى، فأغلب أهاليها من المزارعين والعمال، وقد فقدوا رخص التبغ بعدما هُجّروا من قريتهم عام 1976، ولم يُرخّص لهم من جديد على رغم أنهم طالبوا بذلك مراراً، إذ إن الحكومة لم توافق على ذلك. لذلك منع الأهالي من زراعة التبغ، المورد الأساسي للمزارعين في تلك المنطقة، باستثناء أربع أسر كانوا قد حصلوا على رخص أثناء فترة النزوح.
    يعرض معروف صوفان حالته كمثل عن المعيشة في البلدة. عاد الى البلدة مع عائلته بعد التحرير، وبنى منزلاً على نفقته الخاصة على أمل الإقامة الدائمة في البلدة، «أعمل شتاءً في نقل طلاب البلدة الى مدارس بنت جبيل، وفي الصيف لا أجد عملاً آخر، وهذه حال كل المقيمين هنا، فلا يوجد أدنى فرصة للعمل، لذلك أحاول السفر الى أي بلد آخر، فكثر هنا بنوا منازلهم ثم تركوها فارغة لعدم وجود فرص عمل».
    ويحكي عن 170 منزلاً فارغاً من السكان، ولو تسمح الدولة لنا بزراعة التبغ لعاد أغلب الأهالي النازحين الى البلدة.
    ولدى سؤال الحاج راشد أبو جهجه عن طبيعة عمله في البلدة يردّ ساخراً «أكنس شوارع البلدة الفارغة، فقد منعنا من زراعة التبغ، والأراضي الزراعية أصبحت بعد الحرب غير صالحة للزراعة بسبب القذائف الملوثة للتربة».
    العديد من الأشجار والصحاري يبست هذا العام، على عكس الأعوام الماضية، ويُرجع الأهالي ذلك الى التلوّث الذي أصاب التربة بسبب القصف الذي طال البلدة وجوارها. أشجار الفواكه وشتلات البندورة والكوسى المزروعة في منزل أبو جهجه يابسة، ويؤكد ذلك ابن البلدة ســويدان سويدان: «لم ينجح موسم الزيتون هذا العام، وكثير من الأشجار المزروعة في البلدة يبست، وبعضها غير مثمر على الإطلاق وكذلك دوالي العنب، حتى إن العائلات الأربع التي زرعت التبغ هنا لم تجنِ الكثير من الفائدة، لأن نمو شتلات التبغ بطيء وغير منتج».
    ويقول راشد أبو جهجه «بعد الحرب عدت الى منزلي، وكانت أشجار الحمضيات الأربع المزروعة في باحة المنزل مزهرة وتنبىء بموسم جيد، لكن بعد شهر واحد سقط الزهر ويبست الأشجار». أبو جهجه يسكن البلدة هو وزوجته وحيدين، بعدما زوّج بناته أثناء نزوحه القسري، وهاجر أبناؤه الذين لم يعودوا الى البلدة إلّا زائرين بسبب انعدام أي فرصة عمل. ويشكو سويدان من ازدياد الحشرات الضارة فيقول «ازداد عدد العقارب وكثر النمل المتعدد الأشكال والألوان، إضافة الى الأفاعي والحشرات الغريبة». على رغم ذلك لم يعمد أحد إلى الكشف على الأضرار الزراعية وأسبابها، كما يقول المختار قشاقش، فالأهالي ينتظرون المساعدة لاستصلاح الأرض ودفع التعويضات عن المزروعات المتضررة.




    بين 1976 و2006

    لحانين تاريخ عريق من النضال عرّضها للكثير من الاعتداءات الاسرائيلية، كان آخرها عام 1976 عندما لجأت اسرائيل عبر عملائها الى تدمير البلدة تدميراً كلياً بعدما سرقوا وأحرقوا جميع المنازل فيها.
    بعد التحرير أثارت هذه البلدة انتباه من كان يتجوّل من اللبنانيين والأجانب في القرى المحرّرة، لا لروعة بنائها، بل لعدم وجود أي منزل قائم فيها. وعن أسباب تدميرها يقول مختارها حسن علي قشاقش «البلدة كانت تضم العديد من الأحزاب الوطنية فاعتبرت مدخلاً لمقاومة العدو الاسرائيلي. وقد عمد الاحتلال طويلاً إلى محاولة تطبيعها وتجنيد الكثير من العملاء فيها، وخصوصاً عبر ميليشيات اتخذت من اسرائيل نصيرة لها».
    ويضيف قشاقش أنه «في 17 تشرين الأول من عام 1976 بدأ الهجوم الأول على البلدة بقصف مدفعي طوال يوم كامل أدى إلى تدمير الكثير من المنازل. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي دخلتها جماعة من المسلحين الموالين لإسرائيل وقتلوا كل من شاهدوه، فخسرت حانين يومها 13 شهيداً وفرّ من بقي من أبنائها إلى القرى المحاذية في عيتا الشعب والطيري وبنت جبيل وغيرها، ثم الى منطقة صور ومدينة بيروت، ليقيموا هناك الى ما بعد التحرير». ويشير قشاقش إلى أن «البلدة نُهبت بالكامل أثناء فترة التهجير حتى إن المنازل التي دمرت جميعها سرق حديد أسقفها وبلاط أرضها وبقيت البلدة فارغة من السكان والمنازل الى أن كان التحرير عام 2000».
    كان عدد منازل حانين قبل 1976 يفوق التسعين، وقد سُوّيت جميعها في الأرض. بعد التحرير أعيد بناء البلدة على نفقة الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، فبُنيت 287 وحدة سكنية، وأصبح عدد المنازل الآن حوالى 400 منزل. ودمرت الحرب الأخيرة 22 منزلاً بشكل كلي و56 منزلاً تدميراً جزئياً، وتضرّرت معظم المنازل الأخرى، لكن أهلها أعادوا استصلاحها
    سريعاً.