جان عزيز
لم يعد الدبلوماسيون الأوروبيون المعتمدون في بيروت، يُخفون امتعاضهم من الضغط الأميركي الكبير على حركتهم وعلى الوضع اللبناني، وخصوصاً على فريق السلطة. حتى إن بعض هؤلاء بات يثير المسألة بصراحة مع بعض سياسيي الأكثرية، من زاوية السؤال عن تصوّرهم لتطور الأمور، وكيفية الوصول إلى مخارج للمأزق الحاصل، مع التحذير من خطورة الاتكال على حركة التسيير الأميركية ـــــ السعودية.
وتروي أوساط متابعة لحركة هؤلاء الدبلوماسيين الأوروبيين، أن نوعاً من الإحراج والإرباك الشديدين، أصابهم أخيراً، وخصوصاً بعد الحملة التي تعرّض لها قائد الجيش العماد ميشال سليمان، والتي بدا لاحقاً أن تفاهماً بين عوكر والسرايا الكبيرة، هو ما أطلقها، بحسب هذه الأوساط.
وفي التفاصيل، يروي المطّلعون أن مجموعة أساسية من خمسة سفراء أوروبيين بارزين، تولّت طيلة الفترة الماضية سلسلة اتصالات بين فريق السلطة والثنائي الأميركي ـــــ السعودي من جهة، وبين فريق المعارضة من جهة أخرى، وخصوصاً رئيس مجلس النواب نبيه بري. وقد اكتسبت هذه المجموعة الدبلوماسية صدقيّة أكبر مطلع تموز الماضي، في ظل ما سمّي يومها إنذار 15 تموز. ذلك أنه في الفترة التي شهدت حسم الحكومة القائمة قرارها بإجراء انتخابات فرعية من دون توقيع رئيس الجمهورية، توافرت معلومات موثوق بها لدى محور السلطة الداخلي والخارجي، مفادها أن الرئيس إميل لحود قرّر التحرّك للرد على الخطوة الحكومية. وعلى عكس المواقف المتبادلة بين لحود والمعارضة قبل أشهر، انقلبت المواقع، بحيث أصبح رئيس الجمهورية متحمّساً لإصدار إجراءات جذرية تعلن حكومة فؤاد السنيورة مستقيلة، وتأليف حكومة جديدة موسّعة. وكانت المعلومات نفسها تشير إلى أن التشكيلة المنوي إعلانها ستضم 30 وزيراً، وهي تشمل جميع الأقطاب المعارضين من مختلف المذاهب ومن دون استثناء. حتى إن هذه المعطيات أثارت قلقاً لدى الفريق الحاكم وراعييه الأميركي والسعودي، وخصوصاً بعد الحديث عن قبول الأسماء المعارضة الكبيرة الاشتراك في التركيبة الحكومية المرتقب صدورها من طرف واحد.
عندئذ تحرّك الثنائي الراعي لفريق السلطة في اتجاه مجموعة السفراء الأوروبيين الخمسة، طالباً منهم المساهمة المباشرة لدى نبيه بري تحديداً، لوقف مشروع الحكومة الجديدة. وجاء هذا الطلب بعد تعثّر المساعي الأميركية والسعودية في هذا المجال. وبالفعل، ونتيجة مروحة واسعة من الاتصالات، أبلغ بري أصحاب الفكرة، عدم حماسته لها. وأكد أنه يفضّل إبقاء الأمور على حالها، وانتظار الخطوة التصعيدية الأولى من جانب السلطة للرد عليها، بدل إيقاع المعارضين في تهمة المبادرة إلى الطلاق والتفجير السياسي والدستوري.
وتروي الأوساط نفسها، أن ثمّة كلاماً ما، قيل صراحة أو تلميحاً بين بري والجهات الأوروبية، عن التزام أوروبي برد الجميل والسعي إلى حل مقابل.
وبالفعل جاء بعدئذ وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير إلى بيروت، وسمع كلاماً من كل الأطراف يؤكد المأزق، ويكشف أن آفاقه أسوأ. وفي حمأة هذا الوضع ولدت فكرة البحث عن «صمام أمان»، أو ماصّ للصدمة الدستورية المقبلة. وتؤكد الأوساط نفسها أن المجموعة الأوروبية طرحت الموضوع مع جميع القوى السياسية الأساسية المعنية. حتى إن خطورة الوضع دفعت الأوروبيين إلى كسر قرار سابق بمقاطعة قصر بعبدا، كما إلى توافد أعضاء مجموعة الخمسة للقاء لحود، وضمّه إلى حلقة تباحثهم. وبنتيجة تلك الحركة، انطلق مشروع حكومة إنقاذية تعلن فوراً، وتمثّل الضمانة لإجراء الاستحقاق الرئاسي وفق الأصول الدستورية، في موعده، أو في أي وقت آخر في إطار ما يشمله الدستور اللبناني من أحكام. وتولّى أكثر من طرف أوروبي جمع موافقة الأطراف السياسيين على المشروع. وتؤكد الأوساط نفسها أن الفكرة اكتسبت دفعاً أكبر بعدما حظيت بموافقة البطريرك الماروني عليها. حتى إن صاحب الغبطة اقترح مباشرة أن تكون الحكومة المطلوبة رباعية، على طريقة الحكومة الشهابية في مرحلة ما بعد ثورة 58 والثورة المضادة. وبلغ البحث في التنفيذ الفعلي للفكرة حد تبادل صيغ التشكيلة الحكومية بالأسماء، بعدما اقتنع الصرح البطريركي بضرورة توسيعها إلى ستة وزراء، بحيث تتمثّل كل المذاهب الرئيسية. وذكر أن الأسماء الستة كانت قد أصبحت جاهزة برئاسة قائد الجيش ميشال سليمان وعضوية سليم الحص وفؤاد بطرس وسامي يونس، فيما كان الاسمان الشيعي والكاثوليكي موضع بحث إضافي بين أربعة مطروحين، في الإطار نفسه، أي من غير المنخرطين في المواجهة السياسية الحاصلة.
فجأة، تؤكد الأوساط نفسها، بدأ إطلاق النار على المشروع من السرايا الكبيرة، وقبل أن يتمدّد عبر أطراف السلطة الداخليين، وصلت أصداؤه إلى المحور الأميركي ـــــ السعودي، وراحت تردداته تفعل فعلها نتيجة تبنّي هذا المحور للرفض المستجدّ. وهو ما دفع الأوروبيين إلى التراجع على استياء لدى البعض، وعلى ذهول لدى البعض الآخر، وعلى إصرار لدى البعض الأخير، ومنه الفرنسيون، على الاستمرار في السعي إلى حل. هل جاء كلام نيكولا ساركوزي يوم أمس في هذا السياق؟ وهل يكفي لإحداث الثغرة المطلوبة؟ الجواب برسم ما بعد 25 أيلول، كما تؤكد الأوساط العارفة.